نشأت هيئة علماء السودان مع نشأة المعهد العلمي أوائل القرن الماضي، وفي العام 1912 أنشأ الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم مشيخة علماء السودان واجتمع حوله العلماء،وكان للعلماء دور بارز في تزكية المجتمع وتصحيح المفاهيم المغلوطة،ونشر الدعوة عبر انشاء المعاهد الدينية. وحديثا جاء تشكيل هيئة علماء السودان في أواخر يونيو1985 من العلماء الذين كانوا داخل السودان، منهم الدكتور أحمد علي الإمام،والدكتورأحمد علي عبدالله، وأحمد عبدالسلام، وكان الهدف المعلن الدفاع عن التشريعات الاسلامية التي سنت خلال فترة عهد الرئيس الراحل جعفر النميري ،بعدما تعرضت الى حملة عقب الانتفاضة ،واعتبر الاسلاميون أن الحملة تريد اقصاء الاسلام عن الحياة السياسية. وخلال عهد الحكم الحالي اكتسبت هيئة علماء السودان موقعا مؤثرا في الحياة السياسية،ولكنها اسقطت عن نفسها الاحترام والتبجيل والتقديس الذي يمكن أن يقترن بمؤسسة تحمل مثل هذا الاسم الموحي بدلالات دينية. وقبل يومين أصدرت هيئة علماء السودان بيانا تحدثت فيه عن كل شيىء شمل التفاوض بين الحكومة و»الحركة الشعبية- قطاع الشمال» كما أبدت رأيها في شؤون الغلاء والإسراف والمغالاة و إصلاح القوانين وتجنيب الإيرادات،وحركة الإنتاج،وتصرفات من ينفردون بالرأي في في وزارة المالية أو الكهرباء أو التجارة ومحاربة البطالة وتخفيف حدة الفقر والأوقاف و كرامة العلماء ومكانتهم والتمويل بالقروض الخارجية. اذا كانت هيئة العلماء مختصة بالشؤون الدينية العامة،فإنها توسعت وأبدت آراء في قضايا عامة وليست فتاوي لأن الجسم المعني بالفتوى في الدولة هو مجمع الفقه الاسلامي، ومنح القانون الخاص به استقلالية تمنحه حصانة لاصدار فتاوي بعيدا عن أية تأثيرات،ولكن للأسف فإن غالبية ما يصدر عنها يبدو مصبوغا سياسيا،وآخرها فتوى القروض الربوية. هيئة العلماء ببيانها الأخير وضعت نفسها في موضع منظمة مجتمع مدني تقوم بإبداء الرأي في شؤون عامة تشكل الحياة من السياسة والاقتصاد الى المجتمع والدين من أجل حشد المواقف تجاهها لبلورة رأى محدد ترمي اليه،ولذا فإن آراءها لا تحمل أية قداسة دينية كما تريد أن توحي، وتبدو متناقضة جدا ومرتبكة وتؤدي دور الناشط السياسي لتعزيز مواقف أطراف على أخرى. فقد طالبت الحكومة بخلع يدها فورا عن الحوار مع «الحركة الشعبية - قطاع الشمال»، بحجة إن فكر الحركة معادٍ للشريعة الإسلامية ومعارض لسودان قوي وموحد،طيب أين كانت الهيئة عند توقيع اتفاق نيفاشا؟ فهل كانت «الحركة الشعبية» حينها تدعو لوحدة السودان وتطبيق الشريعة الاسلامية؟،واتفاق نافع عقار الذي يستند عليه الحوار الحالي وقع قبل أكثر من عام فلماذا الصمت المطبق؟. معروف أن الحوار مع «العدو» يتم اللجوء اليه للمصلحة العامة وتحقيق مصلحة الأمة،فهل شرعيا تحديد مصلحة الأمة من مهام الحاكم أم مجموعة اشخاص يخلعون على أنفسهم صفة علماء،أم تحدده الأمة نفسها عبر جماع الرأي أو ممثلوها في جمعية وبرلمان؟. هيئة العلماء بتشكيلها الحالي تجمع علماء دين وغيرهم ،وصارت منبر رأي ليس مختصا في أمور بعينها وانما كل أوجه الحياة العامة ،لكن الصورة التي تقدم بها نفسها وخطابها تحمل على الاعتقاد بأنها تقوم بتدليس وتمنح صفة «عالم» دون الخضوع لمعايير من هو العالم أو الفقيه؟ وهي تخلط -عمدا- بين الناشط سياسيا وبين العالم الديني. وما دام أن هيئة العلماء تريد أن تقول فصل الخطاب في شؤون الحياة من دون أن يكون لديها اختصاص،ولا تضم مختصين في تلك الشؤون حتى يكون حديثها مستندا على مرجعية علمية مختصة،فعليها أن تتحمل النقد والخلاف مع مواقفها السياسية والاقتصادية والدينية،ولا معنى للقداسة التي تتلفح بها،عليها أن تبارز بالحجة والمنطق،لا اصباغ الدين على مواقفها لارهاب مخالفيها.