انقضت الانتخابات وعلم كل اناس مشربهم، فمنهم من سيشرب من معين السلطة كما كان ومنهم من سيشرب من البحر ومنهم من سيظل صائما. الا ان التحدي الذي يواجه الجميع هو الاستفتاء على تقرير مصير جزء كبير من وطن اسمه السودان، ففي يناير 2011 سيدلي المواطن الجنوبي بصوته للاختيار بين الانفصال عن شمال السودان وإقامة دولة مستقلة?،? وبين البقاء جزءا من السودان البلد الواحد ما قد كان وما سيكون. وبعد ان كان الناس يتحدثون عن يناير وكأنه سيأتي بعد قرن أو يزيد رغم ادراكهم لمواقيت اتفاقية السلام الشامل الموقعة في التاسع من يناير الفين وخمسة، ها هم يشهدون الاشهر السبعة التي تفصلنا عنه توشك على الأفول. وتقرير المصير الذي اقرته نيفاشا يعتبره كثير من الجنوبيين اولوية مطلقة و يجب ان لا ينتقص منه أحد، ويقول النائب الاول سلفا كير ميارديت، امام الهيئة الحكومية للتنمية (الايقاد) الشهر الماضي ان الجنوبيين ينظرون الى الاستفتاء باهمية اكبر من اي شئ آخر، وقال ان «شعب الجنوب السوداني يعلق اهمية اكبر على الاستفتاء منه على الانتخابات. فحق تحديد المصير بالنسبة لهم هو من اكبر انجازاتهم السياسية في اتفاقية السلام الشامل وسيدافعون عنه بأي ثمن». ولم يعد الحق في تقرير الجنوبيين لمصيرهم محل أخذ ورد منذ أقرته مقررات اسمرا للقضايا المصيرية والاتفاقيات السياسية السودانية اللاحقة بما جعل كل القوى السياسية مقرة بل وموقعة وباصمة على هذا الحق، فقط ما هو محل الأخذ والعطاء هو السبيل الأمثل لجعل الوحدة مستمرة ومستقرة. وبرغم التطمينات التي بثها ساسة وقادة كبار على مصير السودان تبدو قضية السودان الاولى محل مساومة بين دفع الاستحقاقات اللازمة لجعل الوحدة جاذبة وبين نقيضها انفصال لا يبقي ولا يذر من تواصل امتد لقرون وقرون. وغني عن القول ان مخاطر الانفصال لن تتوقف على الدولتين الوليدتين فحسب وانما ستتعداهما الى سائر الاقليم سواء كان ذلك بتفجر الأوضاع الداخلية نتيجة بؤر لم تحسم كما يتوقع البروفيسور الطيب زين العابدين (حربا بين الشمال والجنوب بسبب الاختلاف على ترسيم الحدود في منطقة أبيى وأن تسري عدوى الانفصال من الجنوب إلى حركات التمرد في دارفور إذا لم تحل المشكلة قبل الاستفتاء) أو ان تنتقل العدوى الى دول الاقليم وبحسب ما يرى الرئيس التشادي ادريس ديبي، ان تقسيم السودان بين شمال وجنوب سيشكل «كارثة على افريقيا»، حيث قال في تصريحات مهمة قبل يومين «كلنا لدينا شمال وجنوب، جزء مسلم وجزء مسيحي. اذا قبلنا بتفكك السودان، كيف نواجه محاولات الانفصال الاخرى؟». ورفض تماما الحديث عن انفصال «اقولها بصوت عال، انا ضد هذا الاستفتاء على الانفصال وضد احتمال التقسيم». وأول ما يثار في وجه تحقق الوحدة هو تقاصر الزمن المتبقي عن انجازها بعد أن اضاع الشريكان زمن البلاد والعباد في التلاقي والتلاوم والتشاكس والانفضاض والعودة حول قضايا صرفت همهم عن القضية الأم، الا ان همة الطرفين في احراز تقدم على صعيد الوحدة بدأت تلوح في الأفق حين أعلن الفريق أول سلفاكير ميارديت النائب الأول لرئيس الجمهورية، رئيس حكومة الجنوب، زعيم الحركة الشعبية، أنه أدلى بصوته في الانتخابات الرئاسية لصالح المشير عمر البشير مرشح المؤتمر الوطني، وقال أنه يتوقع أن تكون الغالبية العُظمى من سكان الجنوب قد صوّتت للرئيس البشير، مما يعني ضمنيا مناصرة الرئيس البشير للعمل من أجل الوحدة خصوصا بعد تأكيد البشير قبيل الانتخابات انه سيتفرغ لقضية الاستفتاء وانه سيقيم بجنوب السودان حتى الموعد المضروب للاستفتاء ولن يقبل من الغنيمة بالاياب. وكان نائب الرئيس علي عثمان محمد طه عبر عن تفاؤله بامكانية تحقيق الوحدة بين شطري البلاد وقال ان الجنوب لا يمضي للانفصال كما يتبادر للناس، مشددا على اهمية العمل من أجل الوحدة وقال «حزبنا مقتنع بأن ما يجمع بين الشمال والجنوب أكبر مما يفرق بينهما وبالتالي فإن تقرير المصير هو تحد للإرادة السياسية السودانية». وتصح الارادة السياسية حين تستجيب للتحدي بالقدر اللازم من الاعداد والتأهب لتجنب الاحتمال الاسوأ، الا ان كثير من المراقبين يقولون ان قانون الاستفتاء الذي أُجيز لم يراع الاحترازات اللازمة التي تدعم الوحدة وتقلل من فرص الانفصال حين جعلت فوز اي الاحتمالين بالغلبية البسيطة (50 + 1) و رفضت وقتها الدعوات بتصعيب الانفصال بالقانون وما خفف من وقع ما اعتبر تساهلا وصل حد التفريط في الوحدة كما يقول البعض، وصف اتيم قرنق، نائب رئيس البرلمان السابق والقيادي في الحركة الشعبية قانون الاستفتاء عقب اجازته في خواتيم ديسمبر الماضي بانه ليس قانونا لانفصال الجنوب، وقول إبراهيم غندور المسؤول السياسي لحزب المؤتمر الوطني إن »إجازة القانون تدفع الجميع للتحرك في اتجاه الوحدة«. الجيد في الأمر بحسب مراقبين ارتفاع وتيرة الأصوات العاقلة المرجحة لكفة الوحدة والمستبعدة لفرضية ان يقود الاستفتاء الى انفصال وذلك بناء على حيثيات واقعية وقراءات موضوعية، ومن ابرز ما يعزز هذا الاتجاه ما يذهب اليه البروفسور حسن مكي في قراءة تستبعد الانفصال تماما ويقول في ورشة عمل (آثار وتداعيات قرار تقرير المصير) نظمها مركز دراسات المستقبل في يناير الماضي (لا انفصال ولا يحزنون) مشيرا الى ان جنوب السودان لم يعد مصطلحا جغرافيا وانما هو وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي وسكاني جديد، وقال ان الجنوب موجود في الشمال والشمال موجود في الجنوب، و ان 25% من سكان الجنوب يقيمون في الشمال ولديهم عقارات ووظائف ومواقع اجتماعية، مؤكدا ان ولادة دولة جنوبية ليست امرا سهلاً. ويطالب مكي بطرح الأسئلة الصعبة حول الوجود الجنوبي بالشمال والكتل السكانية التي تتعامل مع الجبلين وكوستي ولا تعرف جوبا (فهل سنسقط كل هذه الكتل السكانية ومصالحها مع ولادة الدولة الجنوبيةالجديدة، وهل تهم الدولة الجنوبية الجنوبيين جوبا وما جنوبها) مشيرا الى ان الكتل السكانية الموصولة بالشمال قد تحمل السلاح في وجه الدولة الناشئة (فالانفصال قد يكون مرجعية فكرية ولكنه قد لا يحقق مصالح الناس المعنيين به)، ويقول انه ربما حدث تفاعل جنوبي شمالي اكبر مما حدث في الفترات السابقة ويقول انه من الصعب والمبكر القول بأن الانفصال واقع واقع. ويعززها ايضا ما يذهب اليه الدكتور منصور خالد حين يدعو الجميع للجد والسعي للوحدة وان لا تثبط هممهم مناورات المرجئة والمعطلة، ويحث الحركة الشعبية في سلسلة مقالاته (قراءة في أزمة وطن مزمنة..قضية- السودان....إلى أين المصير) الحلقة رقم 27 بالعمل على ذلك ويقول (رغم كل العوائق، فإن قيادة الحركة مطالبة بالدعوة لما ظلت تدعو، والتزمت في الإتفاقية بالدعوة، له: جعل خيار الوحدة جاذباً حتى الشوط الأخير، كما فعل رئيسها سلفاكير في خطابات سياسية في الدمازين وجنوب كردفان والذي قال فيه: »سأكون أول من يضع صوته في صندوق الوحدة«). ويقول خالد (نوقن أن الحركة الشعبية في كل السودان ستمضي فيما تبقى من الفترة الإنتقالية في سعيها لجعل الوحدة جاذبة كما تلزمها بذلك إتفاقية السلام الشامل. وبما أن الحركة الشعبية هي الحزب الذي أطلق الدعوة لوحدة السودان على أسس جديدة) ، ويقول (وبما أنها هي الحزب القائد في الجنوب، فإنها تملك أكثر من غيرها القدرة السياسية لجعل الوحدة حقيقة، لا يماثلها في تلك القدرة أحد. هذا واجب ومسئولية لا تستطيع الحركة التنصل منهما حتى يختار شعب جنوب السودان، وفق إرادته الحرة، ما يريد: الوحدة أو الإنفصال.