تابعت خلال الفترة الماضية حراكاً سياسياً تقوده الحكومة السودانية حول صياغة دستور دائم للبلاد... وأود أن أعلق على الأمر في النقاط المختصرة التالية احتراماً وتقديراً لوقت القارئ المحترم:- أولاً: لا أعتقد أن الإشكالية السياسية الرئيسية في السودان هي غياب دستور دائم... فالمتتبع للواقع السياسي السوداني منذ 1/1/1956م وحتى الآن يستطيع أن يدرك ذلك... فالفكرة المحورية في الدساتير هي الالتزام الحرفي الصارم بثوابت وقيم سياسية لا يمكن تجاوزها مهما كانت الظروف وهذه الثوابت والقيم السياسية قد تكون مكتوبة أو غير مكتوبة أو مكتوبة بشكل بسيط ومختصر... وهنا تكمن الإشكالية السياسية الرئيسية... عقلية سياسية سودانية لا تعرف بل ولا تقبل الالتزام بثوابت وقيم سياسية وطنية... فالذين يصيغون الدساتير والمواثيق ويعتمدونها هم أول من يتجاوز نصوصها ويمزقها حتى ولو بعد يوم من اعتمادها... وفي تقديري أن السبب وراء ذلك هو أنها عقلية سياسية هشة التكوين تتعامل مع السياسة وكأنها مجموعة من البديهيات والعموميات... لذلك يصبح الأمر الأهم في هذه المرحلة ليس هو صياغة دستور دائم وإنما العمل على تطوير العقلية السياسية السودانية... وهذه ليست عملية بسيطة وإنما عملية معقدة طويلة المدى ترتبط بالتطور السياسي للمجتمع السوداني. ثانياً: بحثت عن إجابة لم أجدها لتساؤل أساسي دار في ذهني وهو: أي نوع من الدساتير ترغب الحكومة في صياغته؟ هناك دستور ديمقراطي وهناك دستور شمولي يقنن وجود سلطة شمولية بعينها... فإذا كان المقصود هو الدستور الشمولي فهذا ممكن وسهل التحقيق فهناك جيوش من «ترزية» الدساتير الشمولية الذين يجيدون تدبيج دساتير بنصوص جميلة ورشيقة تعجب كلًّ مَنْ يطلع عليها... فهذه دساتير تجميلية الغرض منها تفصيل عباءة ديمقراطية لسلطة شمولية. أما إذا كان المقصود دستوراً ديمقراطياً يؤسس لنظام سياسي ديمقراطي تعددي حر فهذا أمر مستحيل التحقيق لأن الشرط الرئيسي لذلك غير متوفر حيث لا يمكن إعداد مثل هذا الدستور إلا في ظل مناخ ديمقراطي ليبرالي تعددي كامل لا قيود فيه على حرية التعبير وللحريات الأخرى السياسية والشخصية... فإذا أراد الأخوة قادة حزب المؤتمر الوطني كحزب حاكم صياغة دستور ديمقراطي حقيقي فعليهم أولاً التنحي عن السلطة والابتعاد عنها تماماً والقبول بحكومة انتقالية تكون مهمتها إجراء انتخابات حرة لانتخاب جمعية تأسيسية تضع الدستور وتجيزه وبعد ذلك يتم تكملة العملية السياسية وفق ما سيأتي به الدستور الدائم. أقول للأخوة قادة حزب المؤتمر الوطني لا داعي لإهدار الوقت والمال في صياغة دستور لن يلتزم به أحد لا أنتم ولا غيركم من المتحالفين معكم أو المعارضون لكم... إنه حرث في البحر... فاحكموا كما تريدون واتركوا التطور السياسي للمجتمع السوداني يسير نحو النهاية الحتمية حيث الديمقراطية الليبرالية الكاملة غير المنقوصة والالتزام بثوابت وقيم سياسية وطنية سواءً أكانت في دستور مكتوب أو غير مكتوب.