مر على الحادي عشر من سبتمبر - ايلول 1002م أحد عشر عاماً لم تجن فيها الولاياتالمتحدة الاميركية ما يذكر، بل خسرت الكثير سياسياً ومادياً وبشرياً - اسرائيل وحدها التي استثمرت ذلك الحدث وظلت تنفخ فيه لمزيد من المكاسب التي في مقدمتها تعظيم الفجوة بين الغرب والعالم الاسلامي الذي يحاصرها ويهدد اطماعها المستقبلية في المنطقة. لقد كان الفيلم المسيء لنبي الاسلام صلى الله عليه وسلم صناعة وطبخة يهودية جاءت في وقت تدعي فيه الادارة الاميركية انها قد كسبت في حربها ضد الارهاب بإزالة نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين ثم اهدار موارد وامكانات ذلك البلد واغتيال زعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن بعد ذلك. والفيلم صناعة وخدعة بشهادة طاقمه المشارك فيه الذي تبرأ مما آل اليه الامر وانتهى في اخر المشهد. وذلك ما نطقت به الصحف والقنوات الفضائية الاميركية. ويعزز هذا ويضيف اليه ان صاحب الفكرة رجل أعمال يهودي اميركي دعمه القس تيري جونز المعروف بعدائه للاسلام والمسلمين وولائه للدولة العبرية - اسرائيل - وان الفيلم قد جاء بعد الربيع العربي في المنطقة العربية الذي ترى فيه اسرائيل عملية تغيير سياسي غير مرغوب فيها. ذلك انها حلت محل انظمة كانت هي الاقرب اليها والاكثر دعماً لمصالحها في المنطقة. كنظام الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك والرئيس التونسي زين العابدين بن علي ومعمر القذافي الذي كان يدعو الى قيام دولة «اسراطين».. وربما جرّت المسبحة وكرّت لتشمل آخرين..! ورغم ان الولاياتالمتحدة الاميركية كانت ترى في الربيع العربي فرصة لتجديد علاقتها بالمنطقة العربية وإصلاح ما أفسدته الحقبة الماضية من علاقات وصلات مع الشعوب الا ان الفيلم المسيء للمصطفى صلى الله عليه وسلم جاء ليوتر العلاقات مع الشعوب العربية المسلمة ويؤثر سلباً على العلاقة بين الدول العربية والاسلامية والولاياتالمتحدة، ودول اوربية عانت ما عانت من رد الفعل الاسلامي ضد الفيلم المسيء والبيئة القانونية التي سمحت لمثله بأن يظهر على الوجود. وجراء ما حدث في قنصلية الولاياتالمتحدة بجمهورية ليبيا وكان فظيعاً بحق وما حدث في بلاد أخرى فإن ادارة الرئيس اوباما والرأي العام الاميركي قد ابديا قلقاً وانزعاجاً مما حدث وان لم يكن ذلك من جانب حكومات تلك البلاد الاسلامية والعربية وانما من شعوبها التي هزها الحدث ولم يقنعها ما ردت به الجهات المسؤولة الاميركية على ذلك.. مما ادى مجتمعاً الى ان تعود للذاكرة الاميركية والغربية عموماً احداث الحادي عشر من سبتمبر 1002م فكان القرار بأن تتجه البوارج الاميركية المحملة بالمارينز الى البلاد التي تأثرت سفاراتها فيها سلباً بالحدث بيد ان رد فعل تلك البلاد كان الرفض التام لان ذلك كان يخرق مبادئ السيادة الوطنية فحماية السفارات ومسؤوليها من الاجانب حسب القوانين الدولية والاعراف هي مسؤولية الدول التي توجد على ارضها تلك السفارات والبعثات الدبلوماسية. والولاياتالمتحدة والدول الغربية اجمالاً لم تكن بحاجة الى ذلك كله لو انها تعاملت مع الفيلم المسيء بما يجب في مثل هذه الحالات ذات الخصوصية والقدسية اكثر من غيرها مما كان يثير رد الفعل هناك وهو في الغالب رأي عام ووجهات نظر. فالمحرقة اليهودية - الهولو كوست- وما اليها من الثوابت اليهودية هي امور محرمة ولا يجوز لاحد ان يخوض فيها رغم ما يقال عن حرية الرأي والتعبير. انه ازدواج المعايير الذي يهز الثوابت ويذهب بالاحترام والتقدير بل يغذي روح العداء عند الآخرين للسياسة الاميركية. لقد صدر عن بعض المسؤولين الاميركيين والمؤسسات بمن فيهم مؤسسة ما عبر عن عدم قبول فكرة الفيلم المسيء لنبي الاسلام وما نتج عنه من ردات فعل سالبة الا انه يظل الواقع هو ان الدولة العبرية «اسرائيل» وما يصدر عنها أو يقال ليس محل نظر اميركي جاد، وذلك لانها قادرة على ان تلعب بورقة السياسة والاعلام والمال المؤثرة في القطب الدولي الكبير كما تشاء. بالامس جاء في مقال لوزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر بإحدى الصحف الاميركية وهو مرجعية سياسية ودبلوماسية ومعلوماتية مشهورة ان اسرائيل بصدد ان تحتل عدداً من الدول العربية والاسلامية في الشرق الاوسط قسراً وبالسلاح.. وذلك مما يهدد الامن والسلم العالميين ويؤثر سلباً على العلاقات الاميركية الشرق اوسطية بل يثير الشعوب العربية وغيرها عليها.. ولكن «من يقول البغلة في الابريق» كما يقولون..! انه ليس من أحد يجرؤ على الكلام ضد اسرائيل في الولاياتالمتحدة كما قال عضو مجلس الشيوخ الاميركي السابق بول فندلي واتخذ من ذلك عنوانا لكتاب له، فالساسة الاميركان ومن يتطلعون الى السلطة في ذلك البلد ليسوا احراراً في التعاطي مع الشأن القومي الاميركي؛ لان هناك من يضع قيداً على ذلك. وهذا ما يؤيده ويدعمه اليوم ان المرشح الجمهوري للجولة الرئاسية القادمة في الولاياتالمتحدة الاميركية كان قد استهل برنامجه الانتخابي وافترعه بزيارة اسرائيل واعترافه بالقدس العربية عاصمة لاسرائيل كما تشتهي وتعمل هي من أجله..! واذا كان البيت الابيض الاميركي يعلم ما قال به السيد كيسنجر ونشره في احدى الصحف من ان اسرائيل ستحتل سبعا من الدول العربية في المنطقة فإن ذلك سؤجج النيران ويزيد الطين بلة كما يقولون.. بل يجعل كل ما يجري التفكير به مباحاً وأقله عدم الثقة في علاقات اميركية عربية آمنة ومطمئنة وليس السماح بالاساءة للمعتقدات والاديان كما حدث في الفيلم المسيء «المؤامرة».. وهو ما يراه العقلاء خسارة وليس ربحاً بحال من الاحوال، وان كان ذلك من ثوابت السياسة الاسرائيلية والحراك اليهودي في العالم. ان اسرائيل تعمل دوماً على توسيع الفجوة بين الدول الاسلامية والدول الغربية بشكل عام والولاياتالمتحدة الاميركية بشكل خاص وادق، لأن ذلك يخدم اغراضها واهدافها الخاصة. وذلك ما يعود على الدول الغربية بالخسارة. وخير شاهد ودليل على هذا ان «العقل الجمعي» لدى الجماهير والشعوب في البلاد العربية الاسلامية قد قادها الى القتل والحرق والاتلاف عندما انفعلت سلباً بما جاء في الفيلم المسيء لنبي الاسلام صلى الله عليه وسلم وهي تهاجم سفارات وقنصليات تلك البلاد. وكل ذلك ما كان يمكن ان يحدث لو ان السياسة الاميركية والغربية اجمالاً التزمت بمعايير ومعاملات تخدم مصالحها ولا تجعل حبها للدولة العبرية واهدافها وتحقيق مصالحها هو الذي يقودها ويسيطر عليها لان «الحب قتال..!» كما يقولون.. والسياسة الاسرائيلية رعناء ولا تفكر بعيداً عما هو تحت قدميها والا لما انهزمت وتراجعت عسكرياً امام قوات حزب الله في لبنان في حرب يوليو - تموز 6002م، وهو ما لم يكن يخطر لها على بال وهي التي كانت تنتصر في كل حروبها السابقة مع اعدائها العرب. واذا ما نحن وضعنا حساب الربح والخسارة الاميركية والغربية في الفيلم المؤامرة والمسيء لنبي الاسلام صلى الله عليه وسلم جانباً فإن ما ذكره وزير الخارجية الاميركية الاسبق «هنري كيسنجر» في مقاله اياه لا بد ان يكون محل نظر واعتبار عند الدول العربية والاسلامية من اهل الجوار مع الدولة العبرية، فهي بذلك تجاوزت ابتلاع القدس وفلسطين الى ابتلاع غيرها الامر الذي لا يحتمل ان يكون الرد عليه بالتظاهرات والدبلوماسية وحدهما.. وانما بوسائل اخرى هي التي تعلو على غيرها في هذا المقام، فالأمر يحتاج الى تخطيط وتدبير، ذلك ان كيسنجر قال «ان من لا يسمع ما نطق به قلمه ذلك الصباح فهو أصم..!». نسأل الله تعالى أن يباعد بيننا وبين «الصمم والعمى» والاستخفاف بما يصدر عن أهل الخبرة وهم يقولون ذلك في آخر سني عمرهم.. أي بعد ما يقارب التسعين من العمر، فأستاذ التاريخ والدبلوماسية ووزير الخارجية الاميركي السابق هو الآن في ال 98 من العمر.. وهي مرحلة عمرية لا تحتمل غير الصدق والشهادة لله بكل مقوماتها - الا هل بلغت؟ اللهم فأشهد.