عندما تم تكليف الدكتور عبد الرحمن الخضر بمسؤولية ولاية الخرطوم، كتبت أقول إن الرجل إذا أراد أن يسجل نفسه فى سجل النجاح فعليه أن ينجح فى الأشياء الصغيرة وأن يترك المشروعات الكبيرة، وقلت ان الولاية بها من الكبارى والطرق ما يكفيها، وقلت اننا فى حاجة الى الالتفات الى النظافة وصحة البيئة وتنظيم الأسواق وانتظام المواصلات وغيرها من المشروعات الخدمية، وأذكر اننى ضربت مثالاً بشيئين صغيرين هما «الذباب والبعوض»، وقلت إنه يكفى أن ينجح «الوالى الجديد» فى القضاء عليهما. فقد كان الشغل الشاغل لسكان الخرطوم حينها هو التردى المريع فى صحة البيئة واضطراب عمليات النظافة فى سائر محليات الولاية. غير أن الرجل نجح فى الأمرين، ففى مجال النظافة حدث تطور كمى ونوعى، وانتظمت عمليات النظافة وجمع النفايات بشكل لا نقول مثالى، ولكنه مقبول خاصة فى ظل الأوضاع الاقتصادية التى تعيشها البلاد. لكن المدهش أن الرجل سجل نجاحاً واضحاً فى مجال المشروعات الكبيرة كذلك، حيث أن عجلة التنمية زادت وتيرتها، إذ فى عهده ازداد طول الشوارع المسفلتة، ودخلت مجموعة من الكبارى الطائرة والعابرة للأنهار، وتوسعت المساحات الخضراء، واستمرت عمليات العمران العام والخاص. غير أنه للأسف حدثت انتكاسة مؤسفة فى الفترة الأخيرة، اذ توقفت تماماً عمليات جمع النفايات لدرجة ان بعض المواطنين امتنعوا عن دفع رسوم النفايات، بل ان جامعى الرسوم أنفسهم قد «خجلوا» من المرور على البيوت! قالت لى زوجتى لماذا لا تكتب عن حكاية النظافة، «واللا فالح تدافع عن الحكومة»! قلت لها ان الأمر لا يحتاج الى كتابة، وكنت أعنى ما أقول، فالمواطن يشهد ذلك التردى بأم عينيه، ولكن الأهم أن الدولة ذاتها تدرك ذلك، وهى عازمة على التصدى له وتعديل الصورة. قلت لها إننى سوف أكتب عندما يبدأ العمل فى استعدال الصورة. وقبل العيد بأيام قليلة سعدت بزيارة كريمة فى منزلى من أخى فخامة الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية. وهى زيارة «فى الله» بين أخوين قديمين، أولهما هو الآن الرجل الثانى فى الدولة بينما الثانى يعيش بين غبراء الناس، ولا علاقة لها ببرنامج «الراعى والرعية» الذى يشرف عليه فخامة النائب.. لكن الشاهد أن الرجل شاهد أكياس القمامة وهى تشوه منظر المكان. قال لى ما هذا؟ قلت له: الحمد لله أن شاهدت بعينيك. فقال لى إن الأيام القادمة سوف تشهد عملاً كبيراً فى هذا الاطار. «الشاهد الثانى» أنه تحدث مع بعض الشباب الذين تصادف وجودهم وحثهم على المشاركة فى «نظافة شوارعهم». لقد سرنى أن كثيراً من ذلك قد حدث بالفعل ويحدث وسوف يحدث فى الأيام القادمة. والجهد الشعبى كانت بصماته واضحة فى الحملة. ولكن تشاء ارادة الله أن يذهب نفر عزيز من أبناء هذا البلد شهداء فى طائرة تلودى. وتتاح فرصة لكى تنطلق حملة النظافة و «إصحاح البيئة» تحت شعار «الوفاء لشهداء طائرة تلودي» ولذلك قصة يحكيها سعادة معتمد جبل الأولياء الأستاذ بشير القمر أبو كساوى «*». لقد كنت أتحدث كثيراً مع الأخ بشير حول الأمر، وكان يبشرنى بأن الأمور فى طريقها للانفراج. لكن «الشعار» هو الأمر الجديد، فقد كان الشهيدان العزيزان محمد الحسن الجعفرى المعتمد برئاسة الولاية وطارق حبيب الله معتمد بحري هما «رأس الرمح» فى حملة النظافة التى كانت كل الترتيبات لها قد وضعت وباشرافهما، وكان مقرراً لها أن تبدأ بعد العيد مباشرة. وقال لي الأخ بشير إن آخر حديث دار بين الوالي عبد الرحمن الخضر والشهيدين كان عن حملة النظافة التي كانت سوف تبدأ «بعد عودتنا بإذن الله» من تلودي. لكنهما لم يعودا من هنالك، بل واصلا مسيرتهما مع رفاق الشهادة فى اتجاه آخر «إلى الله في الخالدين»، لذلك فقد اكتسبت الحملة «زخماً» جديداً وقوة دفع «مجرتقة» بعبق الشهادة وأهازيج الفداء. وأعتقد والمأمول أن تستمر بقوة الدفع ذاتها. لقد بدأت حملة تصحيح الأوضاع فى الخرطوم وهذا أمر مهم، لكن الأهم أن تستمر بشكل دائم، فمثلما أن المواطن ينظف بيته يومياً، كذلك الحكومة يجب عليها أن تنظف بيتها يومياً. لقد غادرت الخرطوم صباح الجمعة وعدت إليها عصر الأحد، فوجدت الأمور قد تغيرت بشكل واضح. فسألت نفسى: ما دام الأمر بهذه السهولة كيف وصلنا الى ذلك الوضع؟ والسؤال موجه الى جهات الاختصاص. «*» حاشية: الأخ بشير أبو كساوي ظل يمدني بمفردات وفعاليات وأهداف الحملة، لذلك فهو بالنسبة لي الناطق الرسمي باسمها حتى تستعيد الخرطوم «صحتها وعافيتها» كاملة بإذن الله.