بعد مشقة وعناء وأنا أتسرب بين الكتل البشرية وجدت منفذا استطعت من خلاله الوصول الى الباب الرئيس لمسجد السيد على الميرغني، كنت قاصدا تغطية الحدث بمناسبة الذكرى ال(44) لرحيله، مثلما يحدث كل عام، وهو حدث أصبح مألوفا مثله ومناسبات كثيرة درج السودانيون على إحيائها...عند الباب يتزاحم رجال الأمن بمختلف ألوانهم بكثافة، التوجيهات كانت صارمة، وانا ادلف عبر المدخل وقبل أن اعرف نفسي سألني احدهم بصرامة «انت منو يازول داخل كده» أجبته بهدوء «انا صحفي أريد ان أغطي الفعالية هذه» لكنه انتفض وكأنه محرش وقال بعنف مغلظ «يازول بلا صحفي بلا جن يلا امش من هنا وإلا ستعرف حاجة» بعدها طلب من رجل الشرطة إبعادي بالقوة .. حيث لا قوة لي ولا حول في مناكفة الحكومة انسحبت بلا هوادة، لكني قلت في نفسي هؤلاء عندهم حق لكون انهم ظلوا يتعاملون ولمدة أسبوع تقريبا مع تلك الجموع من الناس التي تدافعت كالسيل من بقاع الأرض ليشهدوا منافع لهم عند حولية «السيد».. منافع روحية وفكرية ومادية والأخيرة هذه تجسدت في منظر رصيف الشارع الرئيسي الذي تحول إلى سوق مكتظ بالسلع الاستهلاكية حيث يجلس الكثيرون القرفصاء والى جوارهم «ستات الشاي»...المناسبة هي عيد او هكذا توحي المشاهد بالداخل وحول المسجد يبتاع الناس ديباجات طبعت عليها صور «زعماء الختمية» وبجوارها كتب تمجد سيرتهم ومناقبهم...ملامح الإرهاق وضعت بصمتها على وجوه الجميع، شيئ من النظام يبدو ملموسا لكنه انحصر فقط في اعداد أجهزة الصوت والتصوير بينما اغفل تنظيم الناس...أمام المنصة الرئيسة افترش المريدون الأرض احدهم فوق الآخر، تكاد لا تجد موطئ قدم بينهم، تدفعهم «المحبة» لزعيمهم ، يحرص كل منهم على الاقتراب من المنصة حيث يجلس «الميرغني» وأنجاله وآل بيته عسى ان يظفروا بنظره إلى وجه «سيدهم» وهو نتاج طبيعي للعلاقة بين المريدين ومشائخهم في الطرق الصوفية المختلفة.. طوال ساعات الانتظار تبارى المداحون وشعراء الختمية والحزب في نثر درر الكلمات على مسامع الناس «مدحا وشعرا». مناسبة الحولية تبدو عادية في جوهرها لأنها سنوية، ولكنها في ذات الوقت تحمل قدرا من المعاني التي يصفها «الختميون» بالسامية، فهي مزيج بين السياسة والدين، وتكتسب الحولية أهميتها السياسية من معطيات الساحة، فعندما تختلط الأشياء وتختفي المواقف في أية قضية سياسية تبرز في السودان، تظل مناسبة الذكرى هي المنصة التي يطلق منها زعيم الحزب الاتحادي محمد عثمان الميرغني رأي حزبه الرسمي، فالرجل قليل الكلام ولا يتحدث الا لماما فهو ليس كالإمام الصادق المهدي زعيم طائفة الأنصار الذي يتميز بالظهور الإعلامي الكثيف سواء عبر الحوارات والتصريحات الصحفية او في منابر «الجمعة»، لذلك دائما ما ينتظر الكثيرون مناسبة الذكرى هذه سيما انصار الحزب لمعرفة رأي الميرغني حول ما يدور، ولكن هذا العام رغم فيضه بالأحداث التي تستحق الوقوف عند حواشيها الا انه يعتبر هادئا الى حد ما مقارنة بما سبقه من اعوام، فعامي (2010- 2011) حفلت بقضايا كثيرة كان للاتحاديين دور فيها ابرزها «الانتخابات» ثم قضية «المشاركة» في الحكومة، حيث كانت تلك القضايا محفزا جعل الكثيرين ينتظرون قدوم الحولية ويحرصون على سماع صوت «الميرغني» لا يسمح للناس العاديين بالوصول الى المنصة المخصصة للميرغني وابنائه والضيوف، وهو امر طبيعي، غير انه كان واضح العناء الذي وجده رجال الشرطة في منع المريدين من محاولة ورغبة الوصول الى المنصة لما تمثله لهم من اعتبارات كثيرة...فعندما تجاوزت عقبة الباب ، وجدت عقبة اخرى وهي ايجاد مكان مريح لرصد الحدث من داخل ساحة المسجد مكان الاحتفال، حيث لا توجد مقاعد سوى داخل المنصة الرئيسية التي يعتبر الدخول إليها صعبا، يضاف الى ذلك ما واجهته في الباب من مواقف رجل الأمن اللاذعة تلك جعلتني أفكر متيقنا بان «الإعلام» لا مكان له هنا، لذلك بدأت مجتهدا لتوفير ما يلزم من راحة تمكنني من اداء واجبي بنفسي...لمحت احد قيادات الحزب وهو يتجول فسألته ان كان للصحفيين مكان محدد يجلسون فيه، لكنه بعد ان سألني عن صحيفتي التي أمثلها أشار الي بالجلوس أرضا حيث الزحام والتدافع، فقلت له ذاك امر صعب بالنسبة لي ولا استطيع الكتابة والرصد، لكنه أصر بقوله»لا توجد صعوبة ولا حاجة» وانصرف في حال سبيله، وهو امر زاد يقيني بان «الصحفيين» لا مكان لهم وقلت لنفسي هل أخطأت التقدير وانت تدلف الى «الحولية هذه»، لكن بعدها تجاوزت الموقف واستطعت الولوج الى المنصة بمهارات شخصية. يبدو ان الدافع الوحيد لهؤلاء القوم وهم يتواردون من شتى بقاء السودان هو «المحبة» وليس غيرها، فليس للسياسة كثير اعتبار عندهم، رجل ثمانيني كان يقف بجواري وهو يسدد نظراته بتركيز كبير على المكان المخصص لمولانا، ومن حين لآخر كان يهتف بصوت ترك الدهر بصمات عليه «عاش ابوهاشم» يكاد يجهش بالبكاء، فسرقت برهة من هدوئه وقلت له، «السيد محمد عثمان دا حيقول شنو اليوم في السياسة» بلا تردد قال لي « سيدي ابوهاشم حكيم الأمة وقائدها»...ورغم الحضور الملاحظ والنوعي للضيوف الا ان السياسة لم تاخذ حيزا كبيرا، حيث كان من بين الحضور نائب رئيس الجمهورية د.الحاج آدم يوسف والعقيد عبدالرحمن المهدي وأخويه، وزير الصحة الاتحادي بحر ابوقردة، اضافة الى رجالات السلك الدبلوماسي وقيادات الاحزاب السياسية الاخرى، الذين جلهم غادر مكان الاحتفال قبل نهاية البرنامج، وكان من بين الحضور ايضا الأب فيلوثاوث الذي هتف عاليا عندما وقف امام «الميرغني» لتحيته وهو يقول «عاش ابوهاشم» مما جعل البعض يعلق ضاحكا، بينما انهالت عليه كلمات الثناء من مقدم البرنامج الذي اغدق عليه الاوصاف الحسنة. جاء خطاب مولانا محمد عثمان الميرغني في الذكرى مقسما بين الارشاد والسياسة اذ دعا مناصريه للهدايا والتحلي بالروح السمحة التي كان عليها السيد على في الالتزام الديني والاخلاقي الكامل بينما طاف على قضايا سياسية مختلفة تمثل واقع الحال السياسي الآن، لكنه بدأ بفذلكة تاريخية وقف من خلالها على تاريخ حزبه الذي قال بانه لا يزال على موقفه الثابت من وحدة السودان ترابا وشعبا شرقا، غربا، شمال وجنوبا مع اختلاف السحنات الالسنة وتباين العادات، واضاف»تلك هي الوحدة التي نصت عليها اتفاقية «الميرغني- قرنق» عام 1988، ولتأكيد اهمية اشارته هذه قال الميرغني ان الوطن اليوم ذاق الامرين من نتائج الانفصال وعواقبه وتضرر من جرائه في امنه وسلامته ولقمة عيشه وموارد دخله، الامر الذي لم ولن نرضاه لشعبنا الابي ايا كان موقعه من خارطة الوطن الجريح، واضاف»لقد استبقناه بالتحذير مرارا بقولنا لو وقع الانفصال فلن يكون هناك استقرار لا في الخرطوم ولا جوبا» وفي السياق ذاته وصف الميرغني اتفاق التعاون بين السودان وجنوب السودان بانه خطوة في الطريق الصحيح، لكنه اشار الى انه يجب تتبعها خطوات تقرب الشقة وتجسر الفجوة نحو وحدة حقيقية وراشدة هادفة لقوة الوطن، وبينما دعا الميرغني الاطراف المتنازعة في جنوب كردفان والنيل الازرق الى انهاء الصراع قال بانه سيظل يطرق كل الابواب ويسلك كل فجاج حتى يصل الى حل لقضية المنطقتين، ولم ينس الرجل دعوة حملة السلاح من ابناء دارفور الى الالتحاق بركب السلام، وعلى الحكومة ان تهيئ الظروف المشجعة والواقع الملائم لعودة هؤلاء بتوطين العدالة. ثم عرج الميرغني الى الدستور معتبرا دعوة الرئيس البشير حول المشاركة في الدستور بالجديرة في ان تسهم في تفعيل دور المواطن في ادارة شئون وطنه، واضاف»شريطة ان يتم اشراكنا جميعا بكل حرية وعدالة ونزاهة ومسئولية من غير إقصاء لجماعة او فرد او انحياز لرأي او رؤية دونما مدارسة وتشاور» ويبدو ان الميرغني بعبارته هذه اراد ان يقف عند منتصف المسافة الفاصلة بين المؤتمر الوطني والمعارضة ، لكون ان الاخيرة رفضت دعوة الرئيس ووضعت شروطاً لذلك من بينها ان الظروف غير مناسبة لوضع الدستور، وهنا يقول الميرغني ان مسئولية توفير جو معافى للحوار تقع على عاتق الحكومة ومنظمات المجتمع المدني على حد سواء...فيما اعطى الرجل أوضاع حزبه الداخلية قدرا من الاهتمام المصحوب بالترهيب والترغيب، اذ اكد على ضرورة إصلاح المؤسسات التنظيمية داخل الحزب عبر عقد المؤتمر العام في يناير المقبل، كما دعاهم الى ضرورة اليقظة والانتباه في ترتيب الصفوف وسد المداخل امام ما وصفهم «بالدخلاء والمغرضين، واضاف»لن نتهاون او نتخاذل او نتردد في اتخاذ الاجراءات وايقاع الجزاءات على كل من يعبث او يخل بنظام الحزب كائنا من كان»