التصحر هو المشكلة البيئية الأولى والمعوق العلمي الأساس للتنمية الحيوية المستدامة في السودان، وذلك وفق رؤى كل العاملين في قطاع البيئة. ولأ همية التصحر على المستوى العالمي أفردت له الأممالمتحدة اتفاقية مكافحة التصحر ودرء آثار الجفاف. ولقد وضعت هذه الاتفاقية الأساس العلمي النظري و المدخل العملي لمكافحة التصحر وفق مفاهيم الانطلاق من القاعدة إلى القمة ومشاركة كل الأطراف. بهذا المدخل أود التعليق على مقال السيد/ أحمد الرشيد محمد: «الغابات وجهودها في مكافحة التصحر» (الصحافة 4 سبتمبر 2012). فلقد ورد في مقاله:»و بالرغم من عدم وجود تعريف علمي حول ظاهرة التصحر ... .. فقد حسمت الأممالمتحدة ذلك بتعريف متفق عليه». هذه الجملة متناقضة، حيث يدل أولها على عدم وجود تعريف علمي للتصحر، بينما يدل آخرها على وجود تعريف متفق عليه. و التعريف الذي يعنيه هو الذي أجمع عليه المشاركون في مؤتمر البيئة والتنمية (قمة الأرض) الذي عقد بريو دي جانيرو، البرازيل في يونيو 1992؛ حيث أجمع المجتمع الدولي وبعد نقاش مستفيض على:» أن التصحر هو تدهور الأراضي القاحلة و شبه القاحلة وتحت الرطبة الجافة نتيجة لعوامل متعددة بما في ذلك تباين المناخ و أنشطة الإنسان». و كلمة أرض في هذا السياق تعني سطح الأرض والتربة والنباتات الطبيعية (أشجار وحشائش) والمياه المحلية. و كلمة تدهور الأرض تعني انخفاض قدرتها الحالية و/أو الكامنة على الإنتاج بتعرضها لواحدة أو أكثر من عمليات التدهور التالية: تدهور الغطاء النباتي بشقيه الغابي والرعوي، و التعرية المائية، و التعرية الريحية، و تملح وتصوديوم التربة ، و تصلب واندماج التربة، و انخفاض المادة العضوية، وتراكم العناصر السامة في التربة (التلوث) ومن ثم انتقالها للنبات والحيوان. لذلك فإن هذه الأرض في الإطار المناخي المشار إليه معرّضة لعمليات التدهور الطبيعية نتيجة لتباين المناخ والتي تتفاقم بسبب أنشطة الإنسان السالبة خاصة في المجتمعات المحلية الفقيرة التي تعتمد في معيشتها على الموارد الطبيعية في منظومتها البيئية الهشة. هذه الأنشطة تشمل زراعة الأراضي الهامشية، والرعي الجائر وقطع الاشجار الجائر والحشائش و الحرائق. فهل يعقل أن يدعو سيد/ أحمد الرشيد لعدم اعتماد تعريف الأممالمتحدة الذي أجمع عليه علماء العالم و مائة رئيس دولة و سجلته سكرتارية الأممالمتحدة لمكافحة التصحر في اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة التصحر و درء آثار الجفاف و نعتمد بدلا منه تعريفه للتصحر الذي يمكن تلخيصه في أن التصحر هو:»عدم التوازن البيئي نتيجة للقطع والرعي الجائرين مع وجود خلل في الميزان المائي». إن الرعي والقطع الجائرين يشكلان عملية واحدة من عمليات التصحر وهي تدهور الغطاء النباتي؛ لذلك يتضح أن هذا التعريف قاصر لأنه يهمل عمليات تدهور الأرض الأخرى كما أنه يهمل الإطار المناخي للتصحر. إن الرعي والقطع مهما كانا جائرين لا يسببان تصحرا في المناطق الرطبة لأن مواردها الأراضية مرنة (Resilient)، و من ثم قادرة على استعادة حيويتها. و عبارة وجود خلل في الميزان المائي لا تصلح لتحديد الإطار المناخي للتصحر؛ لأنها عبارة غير دقيقة، ولا يمكن الاعتماد عليها في تحديد مساحات الأراضي المعرّضة للتصحر، حيث يمكن أن يحدث خلل في الميزان المائي في أراضي كل الأقاليم المناخية ولكن قد لا يحدث تصحرًا. لذلك استخدمت الأممالمتحدة دليل قحولة (Aridity index) كمي يعرّف بنسبة معدل الأمطار لمعدل البخرنتح السنوي () لتعريف الأراضي القاحلة (النسبة = 0.05-0.2) و شبه القاحلة (0.21-0.5) و تحت الرطبة الجافة (0.5-0.65) و هي الأراضي المعرّضة للتصحر. و التصحر في نهاية الأمر يعني تدني الإنتاج الغابي والزراعي والرعوي والحيواني. إن تعريف الأممالمتحدة متكامل فقد تضمن كل ما استنبطه سيد/ أحمد من القران و مالم يستطع استنباطه. و لو اعتمد «درقني ورازنوف وقصاص» على تعريف سيد/ أحمد الرشيد، لما تمكنوا من تقدير المدى العالمي للتصحر، (Global extent of desertification)، (راجع كتاب عمليات التصحر، 2007). ولأن التعريف الذي قدمه كاتب المقالة قاصر فلقد كان استنتاجه التالي ناقصا: وهو «الجزم بأن المعالجة لا تتأتى إلا من خلال إستعادة هذا التوازن البيئي عن طريق زراعة الأشجار والمراعي في وجود الماء». فلقد أهمل العمليات الأخرى التي تخل بتوازن الموارد الأرضية و تدني من إنتاجها الزراعي و الغابي والرعوي و الحيواني و من ثم تهدد الأمن الغذائي و تؤدي للمجاعات والنزوح، كما تدخل الإنسان في المناطق المتأثرة بعملية التصحر في حلقة فقر مفرغة. فعلا لقد كان كتاب بروفسير «استبنق» أول كتاب عن زحف الصحراء في السودان. ولكن هل يعتقد سيد/ أحمد أن مفاهيم التصحر إنتهت عند ما كتبه «استبنق» في الثلاثينيات، بالطبع لقد حدث تطور كبير جدا في هذا المجال، ولكن لا يسمح المجال بالخوض فيها. غير أني سوف اتوقف في العنوان فقط، فالتصحر لا يعني زحف الصحراء أو بالأحرى زحف الرمال (Sand encroachment) وانحسار الغطاء النباتي جنوبا.. بل يعني تدهور الأرض بأي من العمليات التي ذكرتها سابقا سوى في الأراضي المتاخمة للصحراء أو البعيدة منها. حيث إن عملية التصحر تحدث بدرجات مختلفة في كل الولايات الآن بعد انفصال الجنوب. و وفق معيار القحولة أصبحت اراضي السودان كلها أراضٍ جافة. فالتصحر في شمال الجزيرة و جنوبالخرطوم لا يسمى زحف الصحراء. لقد نشر كرسي اليونسكو لدراسات التصحر، جامعة الخرطوم ثلاثة عشر مرجعا باللغتين العربية والإنجليزية في مجال مكافحة التصحر وأربعة إصدارات لمنتديات قومية في إطار مكافحة التصحر، أرجو أن يطلع عليها كاتب المقالة في مكتبة الهيئة القومية للغابات لأن الكرسي ملكها هذه الاصدارات. أما فيما يختص بمجهودات الغابات فهي بلا شك مقدرة والغابات مشهود لها بذلك منذ زمن الرعيل الأول خاصة الأستاذ المتميز كامل شوقي. و التقدير موصول لبروفسيرحسن عبد الرحمن مسند الذي شارك مع دكتور التجاني محمد صالح في كل اجتماعات مؤتمرات الأطراف (COP) التي ناقشت وأجازت اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة التصحر و ما زال يواصل عطاءه بالمشاركة في تدريس مكافحة التصحر في برامج الماجستير بمعهد دراسات التصحر واستزراع الصحراء. ولكن يجب ألا ننسى مشاركة القطاعات الأخرى (المراعي وصيانة التربة والطاقة والتعليم ...الخ) في دعم المجهود القومي في مكافحة التصحر، حيث نفذت العديد من المشاريع بتمويل واشراف منظمات عالمية وإقليمية. وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مشروع القردود لصيانة التربة والمياه، و مشروع جريح السرحة في شمال غرب كردفان، و مشروع الأضية (إدارة الموارد المتكاملة لمكافحة التصحر) في جنوب كردفان، و مشروع وادي ركاز لنثر المياه بهدف رفع إنتاجية المحاصيل والأعلاف. ومشاريع بدائل الطاقة التي شملت صناعة مكعبات قشرة الفول السوداني و المواقد التقليدية «المناقد» المحسنة في النهود و صناعة الفحم من قصب القطن في مشروعي الجزيرة والرهد واستخدام البيوغاز في جنوب دارفور. كما ساهمت جامعة الخرطوم في دعم العمل البيئي بتأسيس معهد الدراسات البيئية منذ أكثر من ربع قرن. وحديثا ولأن التصحر يشكل المعوّق الرئيس للتنمية الحيوية المستدامة، أنشأت الجامعة معهد دراسات التصحر واستزراع الصحراء و دعمته بكرسي اليونسكو لدراسات التصحر الذي بذل جهدا كبيرا في مجال رفع الوعي العلمي بالتصحر ومنهجية مكافحته ونشر المفاهيم الحديثة لمكافحة التصحر و نظم عدة مؤتمرات قومية محورية شاركت فيها كل الجهات ذات الصلة بالتصحر ومكافحته. ومن أهم منجزات المعهد تخريج كوادر مؤهلة لمكافحة التصحر. والهدف من كل هذا السرد الطويل هو أن التصحر علم متداخل وتتم مكافحته بمنهجية متكاملة تتطلب تنسيقاً وثيقا بين القطاعات، كلٍ في مجال تخصصه لتحقيق الغاية المنشودة وهي رفع الإنتاجية في كل القطاعات و تحقيق التنمية الحيوية المستدامة و تخفيف حدة الفقر في المجتمعات المحلية المتأثرة. إن الحمية المهنية والنظرة القطاعية لن تجدي في مكافحة التصحر و هي السبب العلمي المباشر لفشل كل المجهودات القومية السابقة لمكافحة التصحر. و مسألة أن الغابات هي الأكثر فهما والأوفر علماً والأطول باعا مع المجتمع الدولي تعكس فهما قطاعيا خاطئا لطبيعة عملية التصحر وآثاره و الغاية من مكافحتة. إن العمل القطاعي هو أحد الأسباب في المردود الضئيل لكل مشاريع مكافحة التصحر التي نفذت في الفترة ما قبل مؤتمر ريو دي جانيرو الذي أطر للمفاهيم السليمة والمنهجية العملية لمكافحة التصحر عبر برنامج العمل الوطني. وبالرغم من أن هذه المشاريع كان لها أثر ضئيل على المجتمعات المحلية المتأثرة، إلا أنها شكلت رصيدا طيبا من التجربة والخبرة المحلية في بعض التقنيات العلمية. و من أهم أسباب فشل المشاريع القومية السابقة في مكافحة التصحر: عدم تكامل المشاريع مع خطة التنمية و عدم تكلمل جهود القطاعات، و عدم المشاركة الشعبية، عدم كفاية الكوادر البشرية المؤهلة في مجال التصحر واستزراع الصحراء. و قلة البحث العلمي في مجال التصحر الذي تحده قلة التمويل والتسهيلات التقنية والبنيات الأساسية والقوي البشرية المؤهلة في المجال والتنسيق بين المؤسسات البحثية المختلفة. يتضح أن مكافحة التصحر لابد أن تتم عبر مشاريع تنموية متكاملة. ولقد دعوت لتكاملها مع مشاريع النهضة الزراعية لأنها محظية بإرادة سياسة فاعلة. وقبل أن يتم ذلك أقترح للسيد وزير البيئة والتنمية العمرانية تفعيل قانون مكافحة التصحر الذي بادر كرسي اليونسكو لدراسات التصحر بجامعة الخرطوم بوضع مسودته الأولى وطرحها للعصف الفكري في لجنة قومية شاركت فيها كل القطاعات بما في ذلك الغابات، ثم قدمه في ورشة عمل نظمها بمشاركة لجنة العلوم الزراعية والحيوانية (المجلس الوطني) و بتعاون وحدة تنسيق برامج مكافحة التصحر ودرء آثار الجفاف بوزارة الزراعة والغابات، وقد أقيمت الورشة في القاعة الخضراء بالمجلس الوطني. * جامعة الخرطوم