بالرغم من أن منطقة السوق المركزى جنوبى العاصمة الخرطوم من أكبر المراكز الاقتصادية، حيث السوق المركزي للخضر والفاكهة، وبالرغم من أن السوق تؤمه آلاف الأسر بغرض الحصول على احتياجاتها.. الا أن القاصدين لخدمات السوق يشكون من التردي البيئي في وقت كانت فيه الدواعي الصحية تتطلب أن يكون السوق من أكثر البؤر نظافةً ومطابقةً للمواصفات الصحية، لارتباطه الوثيق بصحة الناس وغذائهم. فكيف يتسنى للمواطنين الحصول على غذاء آمن في ظل التردي البيئي الذي يعيشه السوق المركزي للخضر والفاكهة؟ ومن عجب أن ما يشهده السوق من حالة التردي غير غائب عن أنظار المسؤولين عن الصحة.. «الصحافة » تأبطت مسؤوليتها واتجهت إلى السوق لمعرفة مواطن الخلل، ومن المسؤول الحقيقي عما وصل إليه حال السوق.. فكانت هذه الحصيلة. في المدخل قابلتنا على أولى عتباته من الاتجاه الغربى محلات بيع الخضر والفاكهة، وجاورتها أخرى للبقالة يتوسطهما مرحاض عام.. وصورة المشهد ترصد وضع الخضر والفاكهة على الأرض بالقرب من مدخل أحد المراحيض فى حالة تعكس الفوضى التى ضربت بأطنابها أرجاء السوق.. ولم تكتمل صورة المهزلة، إذ شرقي الموقع يوجد عدد من أكشاك الفواكه تطل على بركة من المياه الآسنة، وعلى جانبها التف التجار والمواطنون حول ستات الشاى وهم يحتسون اكواب الشاى الساخنة غير مكترثين بالمنظر الذى يثير الاشمئزاز فى نفوس المارة.. بيد أن الأمر يستفحل أكثر من ذلك عندما تقع عيناك على ثلة من التجار وهم منشغلون بتنظيف الأسماك بالقرب من بركة امتلأت بمياه آسنة، وعلى مقربة من ذلك يقوم ناشطون باستئجار الأسرة والعناقريب للمبيت ليلا للمقيمين فى السوق، ما يتطلب وجود مراحيض لقضاء حاجتهم، غير انهم يلبون نداء الطبيعة فى الازقة والاماكن المهجورة داخل السوق ما يشكل تهديدا خطيرا لصحة البيئة. وأينما وليت وجهك في السوق يرتد اليك أسفاً بسبب التزاحم الكثيف من البشر. وتلفت نظر المرء معاناة هؤلاء لصعوبة التنقل فى شوارع السوق فى فصل الخريف عندما يتحول السوق الى مستنقعات من البرك تجبر الباعة على عرض بضاعتهم فى الممرات، ولا خيار لسائقى الرقشات سوى الخوض فى مياه الامطار واضفاء نوع من اللزوجة ولونا غامضا ورائحة تزكم الانوف، بسبب البرك الممتلئة بالقاذورات التي كانت القاسم المشترك في كل ارجاء السوق المركزى، وكأنها تنتظر فرجا من السماء لتجفيفها. وبالرغم من وجود مصرف للتخلص من المياه يمتد بطول السوق، الا أنه عجز عن استيعاب مخرجات الموقع من القاذورات. وفى الناحية الشمالية محطة للوقود بجانب جزارة للحوم تُعرض فى الهواء الطلق على الشارع الرئيسي المؤدي للمدينة الرياضية، ومن حولها تطايرت أكياس البلاستيك وأحالتها الى مرتع لتلك الكائنات التي تعيش على بيئة القمامة التى باتت تشكل التهديد الأبرز لصحة البيئة بالسوق المركزى وما جاوره من مناطق سكنية. وحسب إفادات المواطن عمر سليمان الذى يقطن بالصحافة شرق، فإن الأوضاع البيئية تعلن عن نفسها، مضيفا أن السوق أصبح مصدرا لانبعاث التلوث بكافة أشكاله. وطالب السلطات ببسط الخدمات، إلا أن احد التجار- فضل حجب اسمه - قال ل «الصحافة» إن المحلية تنشط فى جمع الرسوم وتمتنع عن تقديم الخدمات، وبالرغم من أن الاهالي ملتزمون بسداد فواتير شركة النظافة إلا أنها فى حالة بيات شتوي ولا نرى عملا لمنسوبيها، وهذا تؤكده حالة السوق التي لم تعد خافية على أحد. وفى دوائر المجلس التشريعى تحدث ل «الصحافة» العضو عثمان بوب الذي أقرَّ بتدهور مستوى النظافة وتردي صحة البيئة وانتشار الباعة المتجولين دون اية ضوابط لتنظيم أعمالهم داخل السوق المركزى، قائلا إنهم ظلوا يتابعون الأوضاع بصورة دائمة ومقلقة، باعتبار أن السوق هو المصدر الرئيسي لتوفير الخضر لسكان الخرطوم. وشدد بوب على أن الأمر يحتاج لمعالجة جذرية، كاشفاً عن الاتجاه لإنشاء سوق جديد للخضر والفاكهة بمواصفات مطابقة للمعايير الصحية، بالإضافة لمسلخ حديث ووسائل آمنة لنقل اللحوم إلى مراكز التوزيع بالاعتماد على البنوك لتمويل هذه المشاريع. وتابع بوب قائلاً إن الولاية حققت طفرات هائلة فى خدمات التعليم والطرق، إلا أن حال السوق المركزي يقف مثل بقعة سوداء فى ثياب ناصعة البياض. الخبير فى صحة البيئة محجوب حسن، يرى أن محلية الخرطوم تتمتع بايرادات هائلة تتحصل عليها من التجار، وهى كافية لتحويل السوق المركزي إلى منطقة جاذبة وبراقة، إلا أن وزارة المالية تستأثر بتلك الأموال وتنفقها في أشياء أخرى مثل عمليات الديكور المشوهة التى نصبت فى الشوارع الرئيسية. وأكد محجوب ان الوضع يتطلب عدداً من التدابير الوقائية العاجلة تتمحور فى نقل النفايات بالتناوب على مدار اليوم، وتهيئة المنصات الملائمة لعرض المنتجات الغذائية المختلفة، وضبط المخالفات وردع مرتكبيها. وطالب بضرورة وضع خطط مستقبلية لبناء سوق حديث مجهز بالبنيات التحتية التى تساعد على انسياب المياه بسرعة، ورصف الشوارع الداخلية فى السوق، وتوفير المعينات اللازمة للتخلص من الأوساخ والمخلفات، وتكثيف برامج التوعية للمواطن لحثه على ذلك. الدكتور نصر الدين شلقامى رئيس الجمعية السودانية لحماية المستهلك، استهجن طريقة تداول الأغذية والخضروات، ووصفها بالمتخلفة، وقال إنها تفتقر لشروط السلامة الغذائية الآمنة، بالرغم من أن المواطن يدفع مبالغ طائلة مقابل الحصول عليها. وأكد شلقامي على وجوب توفير السلطات الأماكن المناسبة لعرض الفواكه والخضر لحمايتها من التلوث، لأنها لا تتعرض لعملية الطهى التي تقضى على الجراثيم. وحذَّر الدكتور شلقامى من وضع المنتجات الغذائية على الارض، لأن ذلك يؤدي لاختلاطها بمادة الرصاص، وهي مادة تشكل مهدداً للصحة ومصدرها «عوادم» السيارات. وبشأن عرض اللحوم في مثل تلك البيئات، فقد ذكر شلقامي أن هذه أساليب بدائية، إذ يستوجب وضعها فى ثلاجات مخصصة للعرض الخارجى منعاً للتلوث، مشدداً على فرض تلك الثلاجات على التجار ذوى الدخول العالية وتمليكها بالتقسيط لغير المقتدرين. ويرى شلقامي بوجوب إنشاء سوق آخر بطرق علمية يمكن التحكم فيه، مستدلا بسوق السمك ببورتسودان الذى اعتبره ارقى الاسواق فى درجة النظافة، لوجود مساطب ومجارٍ مائية لغسله يومياً، مؤكداً أن مثل هذه المشاريع تحتاج لثورة مفاهيمية، وإنشاء أسواق بمواصفات عالمية تلبي حاجة المواطن بصورة راقية، وإيلائها لذوي الشأن الذين يتمتعون بخبرة كافية تؤهلهم للقيام بإدارة مثل هذه المشاريع.