٭ من أجمل ما كتب محمد حسنين هيكل مقاله الذي سماه «طلب الاستئذان في الانصراف، دعاء ورجاء وتقرير ختامي». والذي تحدث فيه عن تجربته الطويلة في بلاط صاحبة الجلالة، والمراحل التي تداخلت فيها الصحافة مع السياسة والحكم، والتي كان هيكل محتفظاً فيها ببطاقته الصحفية الى لحظة اعلانه أن حان الوقت للانصراف. ٭ ويقيني أن الوقت المناسب قد حان لتقديم طلب الاستئذان في الانصراف عن عالم الصحافة باوراقها البراقة والولوج الى عالم آخر له قواعد مختلفة تماماً عما كان في السابق. ٭ فالصحيفة التي سيطرت على تاريخ الانسانية الحديث، تمر الآن بحالة انتقال تناسب الإنسانية في المرحلة المقبلة، فتكنولوجيا الاتصال والمعلومات تجعل من الصحافة الالكترونية بديلاً موضوعياً يتناسب مع حركة الأجيال الناشئة في سهولة ويسر. ٭ واليوم بدأت الكثير من المؤسسات الصحفية في العالم تجري هذا الانتقال في خطوات متأنية، وكان آخر المنتقلين إلى صحافة العالم الجديد مجلة «نيوزويك» الشهيرة في الاسابيع الماضية. ٭ فعالم الصحافة الجديد يمثل عالماً افتراضياً تذوب فيه الفوارق ويبدو صارخاً بلا حدود، فهو غير واقعي في طرح الأحاسيس، والمشاعر الانسانية تسير بلا قيود. فهو يعتمد على الإثارة والصور التي تميل الى الخيال. وفي أحيان كثيرة ترصد المواقع الالكترونية صوراً بأحداث غير واقعية غير التي يعيشها الناس في حياتهم المعتادة. وفي الطرف الآخر نجدها دقيقة الحسابات والنتائج، وتحكمها تقنيات المعلومات المتطورة، فهذا العالم هو أيضاً جزء من الحياة المادية التي تتعامل وفق معادلة المعلومات والنتائج، وما بين طرفي عالم التنكولوجيا الجديد تتشكل التجارب الإنسانية الجديدة، وفي هذا العالم تتحرك الصحافة الالكترونية، فهذا هو المحيط البيئي الذي عليها أن تعمل فيه. ٭ وكانت الصحيفة الورقية معشوقة الكثيرين بأوراقها وخطوطها ورائحة أحبارها النفاذة، وعندما تمسكها بين يديك كأنك تسمع دقات قلبها تسري في جسدك، فتحرص على أن تحتفظ بها بين يديك. ٭ وكل ذلك صار من أفعال الماضي. وقد حان الوقت الآن لطلب الاستئذان في الانصراف. ٭ فالقادمون الجدد هم من يقررون هذه الحقيقة، فالأجيال القادمة تعتمد على شبكة الانترنت في كل شيء، حتى في التواصل الاجتماعي والإنساني، وليس منهم من يعشق أحبار الوراقين كالسابق، بل هنالك الآن كُتاب على صفحات الانترنت والمواقع التفاعلية لهم شهرة تفوق كُتاب الصحف اليومية، وان قوة هؤلاء القادمين وصلت الى حد احداث الثورات والتغيير. ٭ ومن الشواهد الدالة على تأثير الصحافة الالكترونية، أنه في تاريخ الثورة الفرنسية كانت هنالك صحيفة يصدرها طبيب فقير كان يعيش في أقبية باريس المظلمة، بعد أن اصيب بالجدري ونبذه الناس، فكتب صحيفته من تلك الاقبية المظلمة، واشعل بها الثورة ومطالبها الشهيرة، والثورات الحديثة نشأت من شباب صغار في أماكن بعيدة وغير معلومة، لكنهم خرجوا عبر شبكة التواصل لادارة ثوراتهم. ٭ ولم يبق للصحيفة الآن سوى بعض أبيات الشاعر فاروق جويدة: العطر عطرك والمكان هو المكان واللحن نفس اللحن أسكرنا وعربد في دواخلنا فذابت مهجتان لكنَّ شيئاً من رحيق الأمس ضاع توبة فسدت.. ضمير مات العطر عطرك والمكان هو المكان لكنني ما عدت أشعر في ربوعك بالأمان شيء تكسر بيننا لا أنتِ أنتِ ولا الزمان هو الزمان