وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    قرارات اجتماع اللجنة التنسيقية برئاسة أسامة عطا المنان    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    شول لام دينق يكتب: كيف تستخدم السعودية شبكة حلفائها لإعادة رسم موازين القوة من الخليج إلى شمال أفريقيا؟    مناوي : حين يستباح الوطن يصبح الصمت خيانة ويغدو الوقوف دفاعآ عن النفس موقف شرف    الخارجية ترحب بالبيان الصحفي لجامعة الدول العربية    ألمانيا تدعو لتحرك عاجل: السودان يعيش أسوأ أزمة إنسانية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركة الإسلامية.. مرتكزات ومسارات التغيير
تأملات ومراجعات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر «6 6»
نشر في الصحافة يوم 03 - 12 - 2012

حاولنا في حلقات خمس من هذه السلسلة أن نتأمل في مسيرة الحركة الإسلامية، مقاربة الفكر والممارسة، في مجالات الثقافة والسياسة والدعوة والتنظيم، وانتهينا إلى أن ما تحتاجه الحركة اليوم هو أن تعمل ورد الاستغفار بعد أن نالت حظها وأكثر من ورد الحمد والثناء على الذات، ذلك أن الذكر بكل الأوراد والصيغ مطلوب على كل حال للتزكية والتجلية، غير أن أهل الصلاح والعرفان «كما الأطباء» يصفون لكل «مريد» ما يناسب حاله من صوم مدام وليل مقام، ومع ذلك فبعضهم يلزمه حسب حاله «انكسار وطول استغفار»، ولعل في تركيز «ورد الاستغفار» عون لما تحتاجه الحركة لأغراض المراجعة والوقوف على الأخطاء أكثر من احتياجها إلى الدعاية والتبرير والتمترس والاستعصام بالمواقف والرؤى والسياسات التي قادت الى حالها الراهن، وهو حال وإن بدت فيه مازالت ممسكة بالسلطة، ظاهرة على أعدائها، مسيطرة على مفاصل الشأن العام، الا أن ذلك كان «في ظن الكثيرين» بثمنٍ باهظ، وعلى حساب كثير من القيم والرسالة والفعالية التي تأسست عليها، وطالما صدعت الحركة في الناس عامةً وبنيها خاصةً «ليس المهم الحرص على الحياة والوهم بالاستمتاع بها ولكن المهم هو أي حياة؟»
هل واقع الحركة الآن يسر الصديق ويغيظ العدو؟ أم أن ما أطلقه الدكتور عبد الله علي ابراهيم على الحزب الشيوعي السوداني حينما قال «الحزب يحمد الله على النفس الطالع ونازل» يناسب بدرجة ما حال الحركة الإسلامية.
ووفقاً لما سبق ليس المعيار الأصوب لتقييم أداء حركات التغيير والرسالة هو الوصول للسلطة والمحافظة عليها أطول فترة زمنية، ولكن لأي هدف، وبأية وسيلة، وبأية أداة يتم ذلك، الحساب قيمي وأخلاقي بالدرجة الأولى، والقياس هو مدى الاغتراب والاقتراب عن تلك القيم.
الأسئلة التي شغلت وتشغل الإسلاميين وخصومهم على حد السواء: أين هي الحركة الإسلامية من قيم الشورى والحرية والعدل والشفافية والطهر والتداول السلمي للسلطة والنزاهة، وتحقيق الكرامة الإنسانية، والوحدة السياسية والاجتماعية لمكونات الوطن؟
وعلى صعيد الفكر والدعوة: هل تمكنت الحركة من انجازٍ فكري ذي بال يجدد أمر الدين، ويقدم بدائل المتدينين هداية للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهل لها إضافات معتبرة على الصعيد الفكري والدعوي، وهل لم تزل قبلة للشباب والباحثين عن برد اليقين؟ وهل لم تزل التعبير الأبرز والحضن الدافئ لأشواق الباحثين عن مثالات الدين والتدين، وصحوة الإسلام؟ وهل يمثل قادتها وعناصرها قدوة حسنة تجسد قيم الدين؟
وامتدت تساؤلاتنا التي هي بعض تساؤلات الساحة سواء العاملين او المراقبين، الأصدقاء والخصوم، لتبحث في أسباب تراجع الفعالية التنظيمية التي عرفت بها الحركة الإسلامية أيام العافية والحيوية، ذلك أن الناس يرون الحشود عامرة والجموع كبيرة، وهذه حجة الحركة ووسيلتها لقياس أثرها، ولكن المفارقة أن الفعل على الأرض متواضع وقليل المردود رغم الإمكانات الكبيرة والسلطة الداعمة، وذلك كله مقارنة بماضي الحركة العامر بالفعالية وحاضر ورصيفاتها من حركات الدعوة في الساحة، وقدمنا في ذلك مقاربة للنهوض بالفعالية التنظيمية ليس على أساس الوصفات الفنية والإجرائية التي دأبت أن تواجه بها الحركة مشكل الفعالية من شاكلة البناء التنظيمي وإعادة البناء، وتعديل اللوائح وتكثيف الاجتماعات ورصد العضوية المليونية، فتلك معالجات تفيد لو تأكدنا من توفر القيم التنظيمية الأصيلة «الإخلاص، الثقة، القدوة، الصدق، التوكل، الأمانة، الولاء الصادق.. الخ » وتوفر بيئة التدافع والتنافس الحر مع الآخر دون إكراه أو احتكار لأدوات السلطان واعتمادها وسيلة وحيدة للتغيير كما هو غالب الشأن في الممارسة موضوع التأملات، أما المعالجات الإدارية والفنية والتنشيطية المنزوعة من صياغها القيمي فهي عندي محض نشاط دائري يعيد إنتاج الأزمات وربما أفلح في خداع وتخدير الذات دون مساهمة حقيقية في علاج أصل العلل.
ذلك بعض ما ناقشناه في حلقاتنا السابقة من هذه السلسلة، ونختمها بمحاولة وضع مسار المستقبل كما تبدى لنا، ويبقي الهدف من ذلك كله تشجيع الجميع على طرح الأسئلة دون سقف، والتداول الحر حولها في كل منبر متاح، لتوليد القناعات والأفكار والمطلوبات الضرورية لعملية «الإصلاح» المبتغاة.
وما نورده هنا حول مسارات التغيير هو مجرد عناوين وإشارات، يضاف الى ما أوردنا في المقالات السابقة، وجملة حوارات الإخوان وأهل الشأن أجمعين، لو توفرت الإرادة اللازمة والنية الصادقة والتجرد والموضوعية والميزان غير المخسور يمكننا أن نصل الى مرتكزات قيمية للإصلاح قبل أن نحدد موضوعاته ومطلوباته، والتي هي أشبه ما تكون ب «شروط الصحة» ومن هذه الشروط والمرتكزات نذكر:
أولاً: التغيير والإصلاح إرادة وقناعة، وبدونهما يتحول إلى مجرد مناورات ومماحكات، تفضي الى لا شيء، وتفقد المحاولات ألقها وصدقيتها، وتستنزف الجهد والوقت دون طائل، « لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت»، وهو بذلك عملية فكرية ونفسية قبل أن يكون محض إجراءات وأشكال.
ثانياً: الاعتراف بالعلة شرط أولي يتبعه تشخيصها، ثم الاستعداد والرغبة في العلاج ولو كان مراً، إن هذا لا يعني أبداً فساد كل الجسد، واليأس منه جملة واحدة، ولو كان الأمر كذلك، فإن الطبيعي هو انتظار موته وليس علاجه، ولكن ما سوى ذلك وحتى الجراحة وعمليات القلب المفتوح هي من ضروب العلاج المسنون البحث عنه «تداوا عباد الله فإن الله لم يخلق داءً إلا وخلق له دواءً»، فهل تمتلك الحركة استعداداً وحرصاً وطلباً للدواء، أم إنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، وإن الأمر أهون من ذلك، وكل المطلوب هو مجرد مسكنات، وإن المؤتمرات الدورية وما تصاحبها من ضجة ورفع سقف الطموحات مع اجترار مستمر وتغنٍ بإنجازات المشروع يكفي وزيادة، ولا يقول منصف موضوعي إن تجربة الانقاذ بلا إنجاز، ولكن كثيراً من أبناء الصف وخارجه من حقهم أن تكون لهم رؤيتهم في النظر في كفتي الميزان بعينهم الخاصة، حتى لا تتحول الوقفات الكبرى مثل المؤتمر الثامن الأخير الى مجرد كشف دوري على جسم سليم عند أهله والمطلوب من الجميع الفرح بنتائج الفحص السليمة، ووضع حجرٍ في فاه كل من يدعي غير ذلك.
ثالثاً: الإرادة والإخلاص والتواضع والرغبة في العدل والقسط مع النفس والآخرين قيم عزيزة وحاضرة في سابق أدبيات الحركة الإسلامية، وستظل هي نفسها شروطاً يستحيل من دونها إنجاز الإصلاح المطلوب، وهي نفسها منطلقات ضرورية لبناء رؤية هذا الإصلاح، ولكن نذكر دوماً أن الصدقية والمبدئية هما ضمانة الضمانات لأي جهد إصلاحي لا المناورة والاستهلاك التكتيكي للقيم والشعارات.
رابعاً: أجملت التواضع مع منظومة القيم والمنطلقات الشرطية اللازمة لحركة الإصلاح، غير إني أعود للتأكيد عليه، وقد يكون مطلوباً أحياناً زيادة الجرعة من دواء بعينه دون بقية الأدوية لحاجة المريض إليه أكثر من سواه، ألا ترون كيف أن المتصوفة يركزون على ضرورة لزوم باب «الانكسار» لمواجهة علل القلوب الراغبة في الترقي إلى أحوال الصلاح، وهو أدعى لمن لامس دعك من جلس على كرسي السلطان لما يقارب ربع قرن من الزمان، ولعمري فإنه كرسي أخطر على قلب البشر ولو لبضع سنين من كل أمراض «الكريسترول» وتصلب الأوردة والشرايين، في الأخيرة فساد المضغة الحسية ولكنه لا يقارن بأية حال بفساد المضغة الروحية.
عودة صادقة لجملنا الفكرية الأولى «التي تأسس عليها أدب الحركة» هي مخرجنا لتقوية إنزيمات التواضع ومقاومة طغيان بيئة الاستعلاء وشهوة السلطان المسكرة، الم نردد طويلاً في خاصة وعامة خطابنا مع الناس:
«رحم الله امرئ أهدى الي عيوبي».
«كل الناس أفقه منك يا عمر».
«أصابت امرأة وأخطأ عمر».
«هون عليك يا أخي إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».
«إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد، وأنام كما ينام العبد».
وعشرات النصوص والمواقف في مراجع وتراث الأمة، شكلت أشواقنا وأشواق المسلمين إلى أنموذج الإسلام الراشد، فأين نحن منها الآن؟، الإجابة عندنا جميعاً، ولكنها تستلزم أقداراً من الصدق والشجاعة والتواضع، نقيس بها أوضاعنا ونصحح بها مسارنا قبل فوات الأوان، ونحن من ظللنا نردد على أنفسنا والناس «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم».
إن كانت تلك أهم مرتكزات الإصلاح وشروط صحته فما هي مساراته ومجالاته؟
«1» التحول الكامل نحو نظام سياسي يقوم على الحرية التعددية والتنافسية بين المكونات الفكرية والسياسية للسودان، مع توفير البيئة الصالحة العادلة بين الجميع، وعلى رأس ذلك حياد الدولة وأجهزتها العدلية والسياسية والتنفيذية، وقبل ذلك مالها وإمكاناتها، عبر قوانين وآليات توافقية محايدة ومقبولة من أطراف العملية السياسية، مرتكزات لا يصلح دونها أي حديث عن الحرية أو التداول السلمي للسلطة، والتداول السلمي وحده السبيل لاستقرار وسلام ووحدة الوطن والحركة.
«2» الوطن رغم مرور أكثر من نصف قرن على استقلاله لم يزل في طور التشكل، ولم يكمل بعد عملية الانصهار الكامل «حتى بعد خروج الجنوب منه»، وخروج الجنوب بثمنه الغالي سياسياً وثقافياً وأمنياً واقتصادياً، يلزم الاعتبار للمحافظة على الوحدة الطوعية، لكل أنحاء السودان على قاعدة التوافق والتراضي، وهذا يتطلب من الجميع حكومة ومعارضة، التنادي الى صياغة مشروع وطني لاستكمال الانصهار الوطني لبلد متعدد متنوع مترامي الأطراف متباين المستويات التنموية والتعليمية، مشحون «بالتغابن» جراء الحروب والنزاعات والتوترات والمرارات بين مكوناته الاجتماعية والجهوية، يغذي ذلك حداثة عهده بالدولة الموحدة، وقبلية وجهوية، هي الأعمق والأعرق في تشكيل ولاءات الناس، وقد جنينا من حنظل القبلية المر وريحها المنتنة أضعاف ما ذقنا من أمراض الحزبية والطائفية، وآن لنا أن نقارن أيهما أفضل لمصلحة وروح الدين وتحقيق الانصهار الوطني واستيعاب ولاءات الناس؟ حزبية وطائفية نصبر على عيوبها حتى ترقى، أم قبلية تمزقنا على اساس العرق والعصبية؟
لا خلاف أن النخبة السودانية قد فشلت منذ الاستقلال في بلورة مشروع للانصهار الوطني على قواعد يرعاها الجميع ولا يخرج عليها أحد، وكل هذه العوامل فتحت شهية الاستراتيجيات الدولية الاستعمارية للاستثمار في زراعة وتغذية الكراهية والتغابن والحروب والنزاعات بين المكونات الجهوية والعرقية السودانية، فكان لها ما أرادت بفصل جنوب السودان، وإن لم نتدارك فستمضي في هذا السبيل تغريها تجاربها الناجحة في تمزيق الوطن الجريح المحسود في موارده المادية الهائلة وموقعه الجيوبولسياسي والثقافي المؤثر.
والمطلوب مبادرة وطنية لإزالة التغابن، وتحقيق أرضية للاستقرار والسلام المستدام، وليس مجرد مفاوضات «بالقطاعي»، واستنساخ الحروب والنزاعات بالمعالجات التكتيكية قصيرة المدى وقليلة الفائدة ومؤقتة الأثر.
«3» العدالة الاجتماعية هدف قيمي مرجعي في الفكر الاسلامي، وقع إهماله لحد كبير، وفي أحسن الأحوال أخذ أولوية متأخرة في اهتمامات دولة الحركة الإسلامية، بل إن الغالب الآن في نظرة العديد من الناس أن الحركة الآن في طريقها لتكون طبقة اجتماعية متميزة عن الناس بالوظائف والأعمال، وكاد الفقر أن يفتن الناس عن قيمٍ عزيزة على أهل السودان، وأن يفتنهم أمر المعاش فتوناً، ورغم جهود الزكاة والصناديق الاجتماعية، الا إن المفارقات الطبقية في البلاد تمضي في اتجاهات خطيرة ومزعجة تعكسها الطبقات الجديدة ومفارقات حظوظها من التعليم والصحة والمسكن والمعاش، إن خيبة إدارة الاقتصاد رغم استخراج البترول كإنجاز معتبر ولكن سرعان ما أصابته «لعنة البترول» أو «المرض الهولندي» أما الزراعة والصناعة فإن كسب الحركة فيها دليل شاخص على «عجز القادرين على التمام».
وعلى كل حال فإن تحدي الاقتصاد هو من أخطر ما يواجه الدولة والمجتمع، ولكن لا جدوى أو حكمة في البحث عن حلول اقتصادية بعيداً عن حلول متكاملة ومراجعات جذرية لمجمل حال الوطن، خاصة في الفضاء السياسي، لا أحد ينبغي أن يفكر في إعادة إنتاج الأزمة بالبحث عن حلول ترقيعية لا تخاطب جذور الأزمة السياسية.
ويتبع الحديث عن المشكل الاقتصادي بالضرورة مسألة التنمية والخدمات الأساسية من صحة وتعليم وخلافه.
«4» المبادرة الوطنية لاستكمال الانصهار الوطني وإزالة أسباب ونتائج التغابن، وتحقيق السلام والاستقرار والوحدة لجملة الوطن، ليست عملاً تكتيكياً لكسب اللحظة، وليست عملاً حزبياً يقوم على اللجاج والجدال والمناورة، ولكنها مشروع لمستقبل الوطن الأمل أن تبادر بها الدولة صاحبة المسؤولية الشرعية والأخلاقية، ولكنها يجب أن تتوجه وتمضي من الجميع وبالجميع، الجميع يحدد مساراتها وأجندتها وآلياتها، وليكن ذلك أساساً لدستور «دائم » لأن آخر ما يحتاجه الوطن كتابة دستور في مناخات التشظي والتناحر والتغابن الوطني، ليكون كما تقول تجاربنا منذ الاستقلال هو دستور كاتبيه مهما كانت النصوص جامعة ووافية، ولكن الأهم من النصوص التوافق والتراضي وبيئة ومناخ الميلاد.
«5» الحرية والتداول السلمي للسلطة والاستقرار السياسي والتراضي الوطني، حتى ولو كانت نتيجته خروج الحركة الإسلامية من السلطة، فهو في مصلحة الحركة الاسلامية «استراتيجياً» أكثر من الآخرين، في مناخات الحرية تسترد الحركة عافيتها وفعاليتها وشوراها، وتعود للرهان على المجتمع، وتطهر من شبهات الفساد والاحتكار والتكلس، وتحقق وحدتها، وثقتها بنفسها وثقة المجتمع فيها.
«6» مبادرة الحركة الإسلامية بالإصلاح السياسي وهي في السلطة، سيجعل الاسلاميين جزءاً معتبراً من أية معادلة سياسية أو دعوية في المستقبل، فهم ورغم كل شيء لهم وجودهم المقدر في المجتمع، والصحوة الاسلامية العالمية تصب في مصلحتهم، وخبراتهم التنظيمية وفي الحكم أفضل من غيرهم بكثير، وسيكونون أبطال التغيير والإصلاح والتحول الديموقراطي، مما سيكسبهم احترام قطاعات معتبرة، فيضمنون بذلك وجوداً مقدراً في السلطة، وتجديد شرايين الحياة في الدولة والحركة، ولهم حينها أن يأملوا في فرص أفضل في المستقبل، هي بالتأكيد أفضل من فرصهم حال الإصرار على حال الجمود الحالي بنذر التكلس والتشظي الداخلي وتآكل المشروعية، عوضاً عن حال ومستقبل الوطن نفسه.
«7» العمل الدعوي والإنتاج الفكري والثقافي والقوالب والخيارات التنظيمية، بما في ذلك مسألة وظيفة الحركة الاسلامية في ظل صحوة إسلامية ومتغيرات اجتماعية ومحلية وعالمية، والعلاقات مع مكونات العمل والحركة الإسلامية الأخرى، ومدى التميز أو التكامل أو الاندماج معهم، كلها ينبغي أن تكون أجندة مفتوحة لحوار حر داخل وخارج الحركة في ظل سقف مفتوح، يطرح كل الخيارات والبدائل، دون تقديس لخيار، أو جمود على قالب، أو ڤيتو على فكرة، حوار يصبغ الإصلاح المرجو ويقوده.
تلك بعض شوارد ذهن وأشواق عاشق مشفق، وخفقات قلب قلق ، ورؤى لا أجزم لها بصواب، ولكنها مساهمات شريك أعياه الصمت، وهو يرى شجراً يسير وأملاً يخبو، فإن رأى فيها الإخوة بعض صواب وبعض جواب فذلك خير، وإلا فإنها نداء مستغيث يطلب الجواب، ويضع بعض حروف «وهمهمات» و«تعتعة» بما رآه بعض الحق ونصف الرأي . ولي على كل حال أجر السؤال «والتعتعة»، والأسئلة موجهة للجميع من الذين يعنيهم أمر الإسلام والسودان، ورحم الله امرئ أفادني بجواب أو رأي خالفني أو وافقني.
ونواصل تأملاتنا قريباً في العمل الإسلامي بوقفات مع الحركة الصوفية والسلفية في السودان، إن أذن ربنا وشاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.