صارت مصر من جديد محطاً لأنظار العالم بعد أن شغلت أرض الكنانة الناس وملأت الدنيا بثورة الربيع العربي في 25 يناير 2011م، وذهبت الجماهير مجددا إلى ميدان التحرير والساحات الأخرى، ومنها ساحة جامعة القاهرة التي استقبلت المظاهرات المؤيدة لقرارات الرئيس محمد مرسي، وعمت مدينة القاهرة كلها في امسية السبت المنصرم، كما شملت الإسكندرية ومدناً مصرية أخرى، وكان ميدان التحرير قد استقبل منذ الأسبوع المنصرم أحزاباً وجماعات تقدر بأكثر من ثلاثين حزباً سياسياً وواجهة سياسية بما في ذلك المرشحون الخاسرون في انتخابات رئاسة الجمهورية عمر موسى وشفيق والدكتور محمد البرادعي «المنسحب من السباق الرئاسي»، وهذه القوى المعتصمة في ميدان التحرير تنادي بإسقاط المراسيم الدستورية التي أعلن عنها الرئيس المصري محمد مرسي وعين بموجبها نائباً عاماً جديداً لمصر بدلاً من النائب العام القديم الذي انتهت مدته. ولعل المشهد الجديد في المعادلة المصرية هو قيام رئيس وأعضاء الجمعية التأسيسية بتسليم الرئيس محمد مرسي مسودة الدستور الجديد لمصر وقرار الرئيس بأن الاستفتاء على الدستور سيكون في منتصف شهر ديسمبر الجاري، وهو استفتاء عام لكل الشعب المصري «بلا أو نعم على الدستور». والناظر إلى الأزمة الحالية في مصر يتضح له أنها ازمة سياسية في المقام الأول بدأت منذ الانتخابات الرئاسية وفوز مرشح حزب العدالة والحرية «المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي» على حساب الفريق أحمد شفيق «آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس مبارك» والمدعوم من قبل النظام السابق نظام الحزب الوطني وقوى أخرى لا تريد رؤية التيار الإسلامي ممثلاً في الإخوان المسلمين والسلفيين في السلطة، وكانت المنافسة بين الجانبين كما هو معلوم في الجولة الثانية من المنافسة التي انحصرت بين مرسي وشفيق. وعملت هذه القوى بكل السبل لإسقاط حكومة الرئيس محمد مرسي في مهدها من خلال الحملات الإعلامية الشرسة والأقلام التي تطعن في مصداقية الإخوان المسلمين الذين أعلنوا أنهم لن يقدموا مرشحاً لرئاسة الجمهورية بعد الثورة، وهم بالفعل قالوا ذلك ولم يشفع للإخوان أنهم اتخذوا قرار خوض الانتخابات بمرشح من صفوف الجماعة بعد شعورهم بأن فلول النظام السابق تلتف على الثورة لسرقتها من خلال الانتخابات، ولولا قرار الجماعة بخوض الانتخابات لفاز الفريق شفيق ولعاد حسني مبارك حراً طليقاً إن لم يعد إلى الحكم ويكون هو الرئيس الفعلي لمصر في وجود احمد شفقيق. وغير اتهام الجماعة بالكذب هناك الأقوال التي تطعن في أهلية الرئيس مرسي وقدرة حكومته على الوفاء بما وعدت به على لسان الرئيس الذي اعلن أنه سوف ينجز عدداً من الأعمال في المئة يوم الأولى من تسلمه منصبه الرئاسي، وجاء إعلانه الخاص بالمراسيم الدستورية الرئاسية «المؤقتة» بمثابة الفتيل الذي أشعل الحريق وأجج الاحتجاجات السياسية إلى جانب الاحتجاجات الفئوية والمطلبية التي كانت قائمة اصلاً. ولعل دافع المراسيم الرئاسية التي أعلنها الرئيس مرسي هو إحساسه بعدم القدرة على إنفاذ قرارته المتعلقة بمحاكمة قتلة المتظاهرين السلميين في الثورة المصرية، وما وعد به أهالي شهداء الثورة بحفظ حقوق أبنائهم، وأن دماء الشهداء لن تذهب هدراً، وقد وجد الرئيس أمامه كثيراً من العراقيل التي وضعتها أمامه القوى المناوئة للثورة ولحكومة الإسلاميين المصريين، وهذا الأمر يحدث على الرغم من وجاهة الهدف الذي رمى له الرئيس مرسي وهو إعادة محاكمة المتهمين الذين تلطخت أيديهم بدماء الشعب المصري، وهذا الهدف يتفق فيه جميع المرشحين لرئاسة على الأقل ظاهراً، ويتفق معهم أبناء الشعب المصري لكون القصاص من الظالمين ومن القتلة والبلطجية لم يتحقق بعد، وهو هدف سامٍ من اهداف الثورة. وفي ذات الوقت فإن من أهداف ثورة 25 مايو ألا يجمع رئيس الجمهورية كل السلطات في يده، كما كان يفعل حسني مبارك الذي كان يجمع بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهذا هو الاتهام الموجه للرئيس المصري حالياً الذي اطلق عليه الدكتور محمد البرادعي اسم الفرعون الجديد، في إشارة لإصداره مراسيم دستورية تجعل من القرارات التي اتخذها الرئيس منذ تسلمه موقعه قرارت نافذة وغير قابلة للنقد أمام اية جهة كانت. وإذا قلنا إن الغاية يجب ألا تبرر الوسيلة في حالة الرئيس مرسي ومراسيمه الدستورية، إلا أن المشكلة أن الرئيس يدفع ثمن الانقسام السياسي والتضاد بين التيار الإسلامي وقوى مصر التقليدية ممثلة في ثورة 1952م وجمال عبد الناصر ثم أنور السادات وأخيرا حسني مبارك. وكان هؤلاء جميعاً قد أداروا مصر في غياب التيار الإسلامي السلفي والإخواني، بل على حسابه من خلال الزج بالإخوان في السجون والمعتقلات والتصفيات والإعدامات ووصمهم بالإرهاب والتطرف، واتهامهم بأنهم اعداء للديمقراطية ولا يستطيعون حكم مصر التي تشتمل على مسلمين ومسيحيين وأقباط ويهود، لكون التيارات الإسلامية تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية. ويدفع الرئيس ثانياً ثمن ضعف الخبرة السياسية للإسلاميين في الحكم والسياسة، خاصة السلفيين الذين لا يؤمنون أصلاً بالديمقراطية والحرية ويعدونها رجساً من عمل الشيطان، وقد كانت جماعة الإخوان المسلمين في منأى عن الجماعات السلفية، ولكنها تحالفت معها في ظل الاستقطاب الحاد الذي تعيشه مصر حالياً الذي مايز بين القوى الليبرالية أو العلمانية والإسلاميين، والذي اتضح من خلال المسيرات المؤيدة والمناوئة للرئيس مرسي التي ترفع شعارات ضد الإخوان على وجه التحديد في سياسة إقصائية وبعيدة كل البعد عن الممارسة الديمقراطية. ولعل دخول الجمعية التأسيسية على الخط مساء السبت وتسليمها الرئيس المصري مسودة الدستور، من شأنه ان يدخل المصريين في مرحلة جديدة وهي مرحلة الاستفتاء والشروع من خلال الاستفتاء في إقرار دستور جديد للبلاد، ولكن هذا وحده لا يكفي، حيث أن الرئيس مرسي وحزبه وجماعة الإخوان المسلمين مطالبون بالدخول مع القوى السياسية الأخرى في حوار جدي يؤدي للاتفاق على الثوابت الوطنية والتأكيد على الثوابت التي جاءت بها ثورة 25 يناير، وعلى رأسها الحرية والديمقراطية والاستقرار السياسي في مصر، وقد دعا الرئيس مرسي للحوار كما دعا الدكتور البرادعي بدوره للحوار بين الفرقاء المصريين. ومن حسن حظ المصريين أن هناك اهتماماً شعبياً بمسودة الدستور الجديد التي وجدت حظاً وافراً من النقاش والتداول من قبل الرأي العام المصري، كما جاء في كلمة رئيس الجمعية التأسيسية الذي دعا المواطنين للتصويت على مسودة الدستور وإجازتها من اجل الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر، كما أكد أن إجازة الدستور في الاستفتاء تعني تلقائياً سقوط كافة المراسيم والأوامر التي صدرت في الفترة الانتقالية.