مع أطيب تحية وأعز ذكريات الزمالة وأصدق مشاعر الود، أهدي إليك كتابي لعله يكون باعثاً للذكرى يوم ينقطع اللقاء حسن متوكل 2000/7/28 (1) قدمت (الخدمة المدنية) عبر تطورها، نماذج مثالية - في مواقعها المختلفة، وكان من أميز خصائصها (المهنية العالية) - و(الحس الوطني الدافق)، ولم يكن صدقة أبداً أن تصدت تلك القيادات في أدب ومسؤولية لإنشاء وقيادة (حركة الخريجين) 1938 والذي تبلورت فكرته - في أروقة (نادي الخريجين) 1918: تشبع الجيل الذي تخرج من (كلية غردون) - في مراحلها المختلفة - بالكثير من قيم الدين وتقاليد المجتمع فنشأ في كنف أسر - بسيطة العيش - قوية النفس - نأت بنفسها عن كل ما يمكن أن يشوب مسارها - من صور الضعف والهوان - فقد خرجت تلك الأسر ومنذ وقت ليس بالبعيد من (رحم الثورة المهدية) وهي تقود حركة عارمة ضد الوجود الأجنبي وتؤسس لدولة اسلامية تهفو لانسان يتعلق بآخرته قبل دنياه. من رحم هذا المناخ ولد حسن متوكل محمد عثمان في عام 1918 بمدينة أم درمان وهو يتنسم ارث أجداده في (العمراب) في مسار تلك الثورة ويعيش معاصراً أشواق أسرة مستنيرة ومثل فيها (الدرديري محمد عثمان) بدايات الوعي الذي أثمر مع بعض زملائه (ميلاد نادي الخريجين) (مذكرات الدرديري -ص12). ترجع معرفتي بالأستاذ حسن متوكل إلى الفترة 1972-1974م حيث كان قد عين أول رئيس لمجلس ادارة المؤسسة العامة لتسويق القطن ومديراً تنفيذياً لها وكان ذلك في أعقاب تأميم (تجارة القطن) وكان في المنصب تحدي كبير يتعلق بمتغيرات اقتصادية محلية واقليمية ودولية. وكنت وقتها أعمل بذات المؤسسة وأذكر ان تعيينه قد قوبل بترحاب كبير من الحادبين على نجاح تجربة التأميم في واحدة من أهم السلع ذات الطابع الاستراتيجي. ورأى آخرون في التجربة بداية فشل ذريع - رهين بالوقت - وكان الأخير رهاناً خاسراً تماماً فقد تمكن (حسن متوكل) بما حباه الله من قدرة على التقدير السليم والاناة في صناعة واتخاذ القرار والحنكة تلمس قدرات الآخرين من تجاوز عثرات البداية سواء ان كانت تلك العثرات طبيعية أم مصنوعة، تميزت ادارته للمؤسسة العامة للقطن بالعدل والصرامة. وكنت أحاول وبقدر الامكان الاستفادة من مثل تلك القدرات متعددة الابعاد، الاقتصادية - الادارية - الثقافية - الاجتماعية. ازدهر العمل الخلاق في عهده، بسبب الانضباط الشديد والمتابعة اللصيقة واستطاع ان يبعث في العاملين معه على الأخص من الشباب روح التطلع - فابتعث الكثير منهم إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا ومضى آخرون إلى فترات تدريبية قصيرة مع الأجهزة المعنية بعمليات القطن التسويقية والزراعة. وكان مما يشهد له بالادارة المرتبة قدرته على أن تكون عملية ضم (مخازن الجزيرة ببورتسودان) للمؤسسة العامة للقطن بقدر كبير من الانسياب والموضوعية فقد أوفى (الأستاذ عبد الرحمن محمود حمدي) مدير الشؤون المالية والادارية آنذاك حقه في الثقة في متابعة وتنفيذ الخطوات التي تم الاتفاق عليها واستطاع الرجل أن يوازن بحكم خبرته السابقة في ادارة مشروع الجزيرة بين العاملين في وزارة المالية بادارة القطن وبين القادمين من ادارة مشروع الجزيرة ممن ارتضوا النقل لادارة المؤسسة العامة للقطن وكان في ذلك كسب كبير. أذكر من دقة الأستاذ حسن أنه كان يقرأ ما يسمى بالFUMZY FILE في كل يوم بعد ساعات العمل الرسمية وكان للرجل تعليقاته الضافية - المتهكمة في ود - وكان يثبتها في ذيل الخطاب أو المذكرة بخط أنيق وعاجل، ولطالما تداولنا ما يجل من ملاحظات والتي سماها الأستاذ عبد الرحمن محمود حمدي - فيما بعد - (بعض عيون الأدب الاداري) - مما يستحق الدراسة والتعليق. كنت قد كتبت مذكرة بشأن أحد المبعوثين (لمد) بعثته ورأيت أن كلمة (مد) ثقيلة على الأذن ثم انها تفتقد إلى شيء من الايقاع. فرأيت أن الأقرب هو كلمة (تمديد) - ولعلها الأصح - فكان تعليقه الساخر: ( أرجو تحذير هذا الشاب من مغبة الاسترسال في استعمال كلمات لا تمت للادارة بصلة.. للادارة لغتها - وكان الرجل بعد ذلك سمحاً في توجيهاته الادارية وتعليق آخر سجله.. ربما كان يضحك وهو يقوم بذلك - فقد صدر تصديق من (الشؤون الادارية) بمبلغ مستحق لأحد العاملين بذات الادارة وكانت المفارقة ان نفس من وقع التصديق.. هو صاحب الاستحقاق فكان ما سجله هو (عجباً منه وإليه)!! كان للرجل حسه الثقافي العالي فقد كان من رواد دار الثقافة هو وجماعة من قيادة الخدمة المدنية آنذاك وربما كانت أسرته أو أحد أهل البحث يفيدنا بدوره في ذلك المقام وأرجح أن مكتبته تذخر بالكثير من النادر المفيد!!. كان حسن متوكل - عليه رحمة الله - في نفس (مواصفات القائد الاداري) الناجح ويماثله في ذلك صديقه الفذ وأستاذي الفاضل (محمد كامل شوقي) أمد الله في عمره ولطالما أشرت إليهما في كثير من دراسات الاصلاح الاداري وتطبيقاته - كنماذج - يلزم دراسة نشأتها تطورها وملامحها واستخلاص قدراتها في تحقيق النجاح وكانت المعايير عندي ولكليهما ودون لبس هي: - الثقة الكاملة في النفس - الاعداد المسبق لصناعة واتخاذ القرار - القدوة النظيفة - الموضوعية في التقييم - احترام العمل المؤسسي - روح الانسانية - الصرامة في تطبيق القوانين واللوائح - احترام الوقت - احترام الرأي.. متى كان مقنعاً - الابتعاد عن سفاسف الأمور (حسن متوكل) في ايجاز - أحد أهم العناصر البشرية في بناء مرحلة ما بعد الاستقلال الزراعية والاقتصادية وسيرته تقوم علي شرف الأداء ومثالية الموقف. (2) في كتابه الذي أصدره بعنوان (تطور الزراعة في السودان) - الطبعة الأولى - 2000 أورد من المعلومات العملية ما يستحق التوقف عنده ملياً فهي شهادة معاصرة لمن شهد العمل أو قام به و(جدير بجامعة الخرطوم) أن تقدم هذا الكتاب في واحدة في برامجها الشهرية وبحضور أفراد أسرته وأصدقائه وتلاميذه وأهل التخصص الزراعي والاقتصادي. ومما لفت نظري ويستدعى البحث الانثروبولوجي هو ما تعلق (بتجارب زراعة القطن) في (شندي) و(الزيداب) قبل أن يبدأ بمشروع الجزيرة فقد أورد ص62.. «عقب تجارب زراعة القطن في (شندي) عام 1900 منحت الحكومة في عام 1904 مساحة قدرها 1100 فدان من (أرض الزيداب) بالمديرية الشمالية كمزرعة تروى بالطلمبات في النيل لأحد المستثمرين الأمريكان ويدعى LEIGH HUNT وكان غرض ذلك المستثمر أن يُهجر إليها عدداً من (الأمريكان السود) كمزارعين وتوطينهم في السودان.. كما منح نفس المستثمر مساحة أخرى لغرض مماثل في منطقة (بتري) بالقرب من (الخرطوم).. ولكن التجربة فشلت...» والسؤال الذي يتعلق بهذه المعلومة الهامة.. هل صار المهجرون الأمريكان مواطنون سودانيون فيما بعد من (الزيداب) وفي (بتري).. أين هم؟! يورد (البروفسور حسن الطيب الحاج) في مقدمة كتابه للأستاذ (حسن متوكل) معلومات أساسية تتعلق بسيرته الذاتية: - ارتبط ميلاده في عام 1918 ببداية مشروع الجزيرة (وكأنه كان على موعد معه). - نال تعليمه الأولى والأوسط (بمدرسة أم درمان الأميرية). - آكمل المرحلة الثانوية (كلية غردون) التذكارية. - التحق (بكلية الزراعة بشمبات) 1941 وتخرج منها في العام 1945م. - التحق بعد ذلك (بمصلحة الزراعة) حيث أتيح له إعداد دراسات فوق الجامعية في (الاقتصاد الزراعي) (كوبنهاجن) بالدانمارك والادارة العامة في (جامعة ماديسون) بولاية (وسكنسون) في أمريكا. ٭ شغل في مساره المهني الكثير من (الوظائف القيادية) ذات التأثير في سياسات السودان الاقتصادية والزراعية العامة: - كانت بدايته مساعداً للمفتش في (مصلحة الزراعة). - أصبح (وكيلاً) لوزارة الزراعة خلال ثورة أكتوبر 1964 حتى عام 1966. - عين بعد ذلك (محافظاً لمشروع الجزيرة) ثم رئيساً لمجلس ادارته وكان أول سوداني يجمع بين وظيفة المحافظ ورئيس مجلس الادارة واستمر في شغل ذلك المنصب حتى منتصف عام 1970 . ويبرز (البروفيسور حسن الطيب الحاج) «أن أميز ما حدث ابان توليه تسيير دفة الأمور في مشروع الجزيرة اكتمال المرحلة الأخيرة من امتداد المناقل واتساع رقعة المشروع ليضم 2.1 مليون فدان. وبدأ في عهده تكثيف وتنويع المحاصيل بالمشروع فأدخل محصول الفول كمحصول نقدي ومحصول القمح لتقليل الاعتماد على استيراده وحدث توسع كبير في انتاج الخضر». ٭ عين (السيد حسن متوكل) رئيساً لمجلس ادارة (بنك النيلين) بعد تأميمه في عام 1970 واستمر فيه إلى حين تعيينه (رئيساً لمجلس ادارة المؤسسة العامة لتسويق القطن) ومديراً تنفيذياً لها. على النحو الذي سبق استعراضه. ٭ امتدت خبراته وحنكته وعلمه، لتجعله عضواً لدورة أو دورات في مجالس كلية الزراعة بشمبات وفي البنك الزراعي وفي جامعة الخرطوم والمجلس القومي للبحوث الزراعية. - ولم يكن هذا المشوار العلمي والعملي بعيداً عن (تقدير مجلس جامعة الخرطوم) الذي كرمه في عام 1987م (فمنحه درجة الدكتوراة الفخرية). - واصل (الدكتور حسن) عمله الزراعي والاقتصادي بعد تقاعده عام 1995. فاختار مجال (البذور) استيراداً وبحثاً ومضى إلى شآبيب رحمة الله راضياً مرضياً في يوم 10 اكتوبر 2012. (3) حفلت مقدمته لكتابه (تطور الزراعة في السودان) بالكثير مما يرتبط بمكونات شخصية. فالرجل ابتداءً مشبع بالتواضع إلى درجة المثالية فقد اهدى كتابه إلى (أخيه الأصغر وابنه الأكبر) الدكتور أحمد متوكل محمد عثمان: أهدي عصارة أفكاري المتواضعة وهي ليست كفؤاً له». ثم ان (الكتاب) لم يكن في أصله غير أشتات معلومات شكلت محاضرة بعنوان (تاريخ الزراعة المعاصرة) في السودان قدمت (بدار المهندسين الزراعيين) في شهر سبتمبر من عام 1991، وأثارت (المحاضرة) من القضايا والمسائل ما أكد على ضرورة التوسع منها، لتكون مرجعاً مرشداً (لأبنائنا الطلاب بصفة خاصة ولغيرهم ممن يرغب في تطور الزراعة في وطنهم من الزملاء والمواطنين). الرجل دقيق الكلمة، رقيق العبارة، محدد الأبعاد، فهو يعتذر في تواضع العلماء عن أي نقص قد شاب دراسته «ولئن أحس القارئ تقصيراً مني في بعض الجوانب أو افتقد مواضيع أو أحداثاً كان يتوقع وجودها، فليتسع صدره، ليتحمل سوء تقديري في الاطالة والاسراف فيما ظننته ينفع الناس أو تقصيري بالاختصار، والايجاز في النقل والسرد فقد كان رصيدي فيما قدمت في هذا الكتاب هو ما استطعت الحصول والاطلاع عليه من مراجع ومستندات وما يحق لي أن استند عليه في تجاربي ومعلوماتي التي اكتسبتها خلال حياتي العملية وما رأيت له أهمية من أحداث ووقائع عايشتها»- المقدمة. «.. كان من أهم أهداف الكتاب أن يتدبر المهتمون بأمر الزراعة في البلاد وفي هذا الجيل وفي الأجيال التالية ما يبدو من الآثار القريبة والبعيدة: الظاهر منها والمستتر للتحولات التي حدثت في البلاد، كانتشار الزراعة المروية وتقلب الأحداث فيها والتوسع في الزراعة الآلية وايجابياتها وسلبياتها وازالة الغطاء الشجري بصورة واسعة في البلاد وأثار ذلك في زيادة الجفاف وامتداد التصحر والآثار الاقتصادية الاجتماعية والاقتصادية للاصلاح الزراعي والتأميم والخصخصة وهجرة القرويين للمدن تاركين وراءهم تراثهم القديم من زراعة تقليدية وحياة اجتماعية قروية وتبصيرهم بالقيمة الاقتصادية لماشيتهم.. فلعل مثل ذلك التأمل والتحليل يكون حافزاً لاصلاح العثرات وتحقيق المزيد من الانجاز والابداع وأن يكون في تجارب الماضي العبرة لتجنب الأخطاء وتفادي الاخفاق في المستقبل. أنهى الدكتور حسن متوكل محمد عثمان جهده باستعارته حكمة أحد الزهاد وهو يستجير من أعين الناس فيقول: وددت لو أني أرى الناس والناس لا يرونني، فقد تمثل ذلك القول حين أورد «أود لو يقرأ الناس كتابي هذا ولا أقرأ ما يكتبون عنه»- وفي ذلك تأمل.. رحم الله الانسان المتواضع - رحمة واسعة - وأثابه على ما قدم من عمل نافع جنة الرضوان - انه فعال قدير. ملاحظات غير عابرة -قدمت الخدمة المدنية على مدى تطورها، على الأرض ابان نمو الحركة الوطنية وما بعدها نماذج محترمة شكلت رأس الحربة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد.. وكانت لتلك النماذج من المواقف في الصراع بين السياسي والادارة.. ما بين الفخر والتسجيل - فللسياسي - آنذاك موقف محترم من الموقف الفني.. لا يكاد يرفضه.. وللاداري خطوط حمراء.. يرفض فيها تغول السياسي على اختصاصاته وسلطاته.. وبين هذا وذاك سجلت الخدمة المدنية - في مسارها التاريخي.. عناوين من القوة والجسارة والأدب!! - هل يتولى الأستاذ (السموأل خلف الله) في (منظمة أروقة) جمع كل ما كتبه رجال الخدمة المدنية من مذكرات في الفترة التي أعقبت الاستقلال.. والتكرم بتولي طباعة.. ما ظل مسودات معرضة للضياع أو التلف. - هل تتولى (جهة اعلامية) ذات حضور مهني عال... وهي (وكالة السودان للأنباء).. عمل معرض يضم صور كل القيادات الادارية في جهاز الدولة منذ أيام التركية السابقة.. مروراً بالمهدية.. والحكم الثنائي والحكم الوطني.. وما بعده.. هل.. بالامكان ذلك أو بعضه على الأقل. - (حسن متوكل محمد عثمان).. رجل كان يزهد في الظهور.. على الرغم من عمل فعال وكفء وشفاف.. هل تبدأ أسرته مشروعاً لتأبينه تدعمه وزارة الزراعة والغابات واتحاد المهندسين الزراعيين.. إذ رأى اخونا حسن عبد القادر هلال.. والرجل.. مبادر وهو من أهل الوفاء. - (التاريخ الزراعي).. ويدخل ضمن ذلك الغابات.. مازال يحتاج لكثير من البحث والتدقيق.. اذ على الرغم من دراسات أكاديمية وعملية كثيرة. إلا انها ما زالت قيد الأدراج والمكتبات.. هل تمتد تلك الثقافة إلى عقول المواطنين.. وما يرتبط في ذلك بحياتهم كثير.. كما ان عنوان السودان التاريخي.. هو الزراعة.. وهي مسألة ترتبط بمصطلح الحضارة فالزراعة AGRE-CULTOURE تعني حراثة الأرض.. وربما عنت CULTOUR زراعة أو حصاد العقل. - رحم الله أستاذنا القدير الوفي حسن متوكل محمد عثمان وأسكنه فسيح جناته.. انه سميع مجيب.