العام 2012م، يلفظ انفاسه الاخيرة، ويوم 19 من ديسمبر الجاري من 1955م، يعتبر يوم الاستقلال الحقيقي للسودان، اذ ان 1956/1/1م هو اخراج فقط لذلك اليوم ، لأن القوى الوطنية السودانية ممثلة في الاحزاب السياسية والهيئات المطلبية والعشائرية القبلية عاشت اوج اختلافها منذ دخول كتشنر في عام 1899م، فقد طبق الاستعمار سياسة فرق تسد بين كافة الشرائح السودانية، رغم ان الريف السوداني في كل مكان في حالة حرب ضد المستعمر، سواء الفكي سنين والفكي السحيني في دارفور، او ود حبوبة في الجزيرة، والفكي علي الميراوي في جبال النوبة، او ثورات الشلك والدينكا والتي شهدت مناطقهما اول اغتيال لمفتش انجليزي ومع ذلك كان بعض مواطني الخرطوم وعلية القوم يناصرون المستعمر، ويضحكون على الابطال في الريف السوداني..! اذ شهدت السنين الاولى لحكم ونجت باشا وسلاطين باشا المفتش العام لحكومة الحكم الثنائي، استقطابا حادا لسياسيي وتجار الخرطوم، وضغطا شديدا على القبائل في الاطراف، خاصة التي لها تاريخ نضالي ضد الاستعمار، وعندما تحركت الروح الوطنية للشباب والضباط السودانيين قامت ثورة 1924م، بقيادة علي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ وصحبهما ، سبهم علية القوم في الخرطوم ونعتوهما بأشد الصفات قبحا، حتى مس السب الاعراق، دون مراعاة للأدوار الوطنية التي لعبها الابطال. وهكذا يفعل الاستعمار الافاعيل بالقوى الوطنية يقرب هذا ويبعد ذاك، قرب السيد علي الميرغني وأبعد السيد عبدالرحمن المهدي، وعندما احسوا بقوة الميرغني قربوا عبدالرحمن المهدي، ليقع الميرغني في احضان المصريين، وعندما ظهر مؤتمر الخريجين، انقسم الانجليز في السياسة والتدبير ، جزء منهم دعم الخريجين والجزء الآخر دعم زعماء العشائر وهذا اول إسفين دُق بين هاتين الشريحتين المهمتين.. لقد ادخل الانجليز الموالين للخريجين فرية ان زعماء العشائر متخلفين لا يحق اعطائهم اي صلاحية في ادارة البلاد، اما الانجليز الموالون للعشائر حاولوا دعم الادارة الاهلية بكافة السبل مع اصدار القانون تلو القانون علي حساب القضاة والمفتشين الاداريين.. اما الخدمة المدنية فكانت السيطرة بالدرجة الاولى للانجليز، والدرجة الثانية للمواليد من شراكس وأرناووط ويونانيين وشوام، والدرجة الثالثة للمصريين والدرجة الرابعة للسودانيين..!! وحتى السودانيين فكانوا يقسمون الى قسمين الى (خيار) و(فقوس)..!! او هكذا من معانٍ. اما قوة دفاع السودان قبل ان تكون وزارة الدفاع، فكانت مراقبة مراقبة دقيقة خاصة بعد ثورة 1924م، كانت الأنفاس تحصى والتصرفات تُحسب وسعت الاستخبارات بينها تدب كدبيب النمل وهي من بني جنسهم.. حتى الطلاب وبعد اضراب كلية غردون عام 1931م، اصبحت الاجهزة تتابعهم وتترصدهم، وطلاب غردون 1931م، أحد نواة مؤتمر الخريجين الذي انبثق من مدني عام 1938م، وكان ايضا مخترقا حتى النخاع ولذلك لم يصمد ، فاقتسمت تركته الاحزاب السودانية التي قامت مختلفة في تفكيرها ونهجها عن بعضها البعض خاصة مبادئها التي صدرت في عامي 44 - 1945م، وهو ما عرف اخيرا بالاتحاديين (الاتحاد مع مصر) والاستقلاليون وشعارهم السودان للسودانيين وعلى رأس ذلك حزب الامة، وهناك قوة اخرى ليست بسهلة تعزف (سيموفونية) لا تطرب لها لحاء الختمية والانصار ، وهي قوة الشيوعيين واليساريين والقوميين الذين يرون ان الدولتين مصر والسودان مستعمرتان لابد من النضال المشترك لتحرير الدولتين، ومن ثم البحث عن وسيلة سياسية تربط بينهما. اما الاخوان المسلمون فلا دور لهم البتة في هذه المعمعة اذ كانت مركزيتهم في مصر وشيخهم حسن البنا ينادي بوجوب تسليم السودان بالتاج الملكي المصري..أما شيخهم في السودان فهو السيد علي طالب الله، فكان يشغل وظيفة ادارية في وزارة الخارجية، ولكنه تابع للاخوان المسلمين والذين يخرج قرارهم من مصر. هذه هي الظروف قبل 1955/12/19م، ولكن بسعى الحكماء وجهود الابطال وتدافع الوطنيين نحو التحرر، كان التقارب بل حصل التقاء كامل واتفاق لإعلان استقلال السودان وحقيقة السودانيون (مقلبوا) المصريين والانجليز في اللحظات الاخيرة وهذا ما توقعه الدكتور السنهوري وحده وهو احد المقربين لجمال عبدالناصر، هذا (المقلب) هو سبب كل كوارث السودان حتى الآن، فالحكام المصريون بعد ما ضمنوا الاتحاد معهم عن طريق الاتحاديين خاصة بعد فوز الاتحاديين الكاسح في انتخابات 1953م، والتي نال فيها الحزب الاتحادي ضعف بل اكثر من مقاعد حزب الامة. والانجليز ضمنوا حزب الامة الى جانبهم بضرورة التدرج نحو الاستقلال لفترة انتقالية تمتد من 1952 - الى 1972م، وعندما شعروا بململة حزب الامة من هذه الفترة الطويلة غرزوا شوكة في خاصره، اذ أسسوا الحزب الجمهوري الاشتراكي من زعماء القبائل، والذين ينتمي معظمهم الى حزب الامة - ولكن الانجليز والمصريين تفاجأوا (بمقلب) السودانيين، وهو النزوع للاستقلال من الجهتين.. لم يغفروا لنا ذلك فكل (بلاوي) البلد من المصريين واعني الحكام وليس الشعب ، وكذلك حكام الانجليز وليس الشعب .. وعلي كل حصل منعطف تاريخي في 1955/12/19م، اذ اتفقت كل الشرائح السودانية على الاستقلال بما في ذلك القوى المعادية للاستعمار وتم إعلان 1956/1/1م، يوم استقلال السودان الذي سنحتفل به إن شاء الله في الايام القادمة. ولكن السؤال الهام والمهم والذي يهم الجميع..هل الآن نحن في استقلال تام..؟!! الاجابة لا وألف لا ، الخوازيق التي دقت هي التي اقعدت الوطن عن الحراك، وهي كالسحر فسيبطله الذي فعله او ان يكون الايمان قويا بالله ومنتهى الايمان هو العدل بين الناس والمساواة بينهم وحسن ادارتهم، لا ان ترمي بهم في الهلاك.. وهذا ما فعله سيدنا عمر بن الخطاب فهو لا يرغب في فتح مصر خوفا من هلاك الجيوش المسلمة ، حتى تأكد تماما من الخطة ثم امر عمرو بن العاص بالتحرك بها بل قال له اذا امرتك في أية لحظة بالتوقف فيجب أن تتوقف.. اذا فعلنا كل هذا في مواطنينا... فإن الاسفين الذي وضعه المستعمرون او قُل السحر الذي ضعضع اجسامنا، وأتلف امخاخنا وذهب بعقولنا فإن الله سيبطله، وقالت الآية ولا يفلح الساحر حيث أتى.. ولكن لا يكون ذلك الا بالايمان القوي الذي يوقر في القلوب.. الوطن الآن يعيش حالة ما قبل الاستقلال بقليل، تحسبنا جميعا وقلوبنا شتى ، كلما دخلت امة لعنت اختها، نقول اننا نلنا استقلالنا من المستعمر لمدة تزيد على خمسين عاما، ثم نتحدث عن الدستور والحريات وكيف يحكم السودان، نتحدث عن الاستقلال والوطن يتآكل من اطرافه، نتحدث عن السودان ولا زال السوداني يقتل السوداني.. لا يدري القاتل فيما قتل والمقتول فيما قتل... نتحدث عن الاستقلال وعملتنا رهينة وحبيسة لتسعيرة اليورو والدولار ، نتحدث عن الاستقلال وكل الوجوه تنظر الينا شذرا في مجالس الاممالمتحدة ومجلس الامن، أأيقاظ أمية أم نيام..؟ كل ذلك لا يحرك فينا الغيرة الوطنية الحقة... حتى نفعلها كما فعلها آباؤنا في 1955/12/19م، وعلى (فكرة) لم يقم شخص واحد ساهم في جمع القوى الوطنية في ذلك اليوم من خارج السودان، ألسنا من اصلاب أولئك الرجال وارحام (ذينك) النساء ، ام نحن هبطنا فجأة من كوكب آخر الى الارض.. كل دعائي لذلك الجيل بالخلود في الجنان كله من سياسيين وشعراء وفنانين وتجار وطرق صوفية وادارة اهلية ومثقفين من غير سياسة، كل هؤلاء صبوا (سعيناتهم) في نيل الوطن بعد ما تعافوا من مرض مخابرات واستخبارات الاجنبي، واليوم اذا تعافينا من مرض المخابرات والاستخبارات الاجنبية سنفعلها ثانية، ان الاجانب يعطون النقارة عصي والحلة سوط ، كما فعل الانجليز تماما بعضهم يزين الحكم للانقاذيين ويقول لهم ما (تفكوها) ما في زول غيركم، وآخرون يقولون للمعارضة سواء السياسية اوالعسكرية: الجماعة ديل انتهوا، اصبروا شوية، وما بين هذا وذاك يضيع الوطن بين ايادينا ويشرب غيرنا صفوا ونشرب نحن كدرا وطينا.. مجرد ذكرى سردتها والذكرى تنفع المؤمنين.. ان كنا مؤمنين..!!