حتى أسابيع خلت، كنت أعتبر د. عبد الوهاب الافندى من الاسلاميين المستنيرين، وكنت من المداومين على قراءة مقالاته ومتابعة مشاركاته فى مختلف المنتديات، بل اننى دون معرفة شخصية بالسيد الافندى كنت من المدافعين عنه، معتقداً أن انتقاداته لتجربة الانقاذ والحركة الاسلامية وحزبها الحاكم تدخل فى باب المراجعة الفكرية، وأعترف بأننى «سوقت لأفكاره فى أوساط لم تكن تحتمل حتى مجرد ذكر اسمه» باعتباره أحسن السيئين، اما وقد ظهر خطل رأيى فلا بد من الاعتذار لكل الذين ساهمت فى استمالتهم لأفكار الرجل... حيث أننى كنت من الذين نجح الافندى فى خداعهم وايهامهم بانه يمثل مع آخرين غيره تياراً للاستنارة داخل متاهة الاسلاميين، واننا يجب ان نشجع هذا التحول الاستنارى، وكان هذا حالى وحال الكثيرين الى أن فأجانا الدكتور بتحليلاته وقراراته التى أطلقها ما بين دعوته للاصلاحيين من القيادات الاسلامية لاستعجال التغيير ودعوته الثانية «لإخوته» الإصلاحيين الى التمهل وتجنب المواجهة فى المرحلة الحالية، «حتى يرى أن العقلانية ستسود بالفعل»، اذن فالسيد الافندى يريد أن يقول إنه من الذين يحركون الامور من عاصمة الضباب «ولا حسد»، فمرة يطلب استعجالاً ثم يعود فيطلب تمهلاً بعد اقل من اسبوعين، وبسبب ان بعض الكتابات الاسفيرية قد خالفته الرأى، ويقول الافندى إنه بصدد اتخاذ قرار وشيك باعتزال الشأن العام فى السودان، ويرى أن ما يراه ويسمعه يسهل هذا كثيراً ويوفر عليه تأنيب الضمير.. أليس من حق الآخرين ان يجهروا برأيهم مثل ما تفعل؟ ولماذا الانزعاج من بعض ممن طفح كيلهم؟ وعقلاً لا يستطيع أحد أن يتقبل أن رجلاً مثل الافندى يعترف بأنه يتحكم فى مصير التغيير والإصلاح «بالريموت كنترول» سيعتزل الشأن العام، وواقع الامر ان الدكتور الافندى لم يستطع الصبر على فكرة الاصلاح التى قام على الدعوة لها لاكثر من خمسة عشر عاماً، وعليه يمكن اعادة صياغة العبارة الشهيرة للترابى «اذهب الى القصر رئيساً، وسأذهب الى السجن حبيساً، ولتذهب يا الافندى الى الاصلاح تلبيساً»، ولا ندرى تحت أية لافتة يمكن وضع تحذيرات الدكتور الافندى من خطورة المليشيات المدججة بالسلاح، ولومه الذين لا يقدرون الجهود المبذولة لتفكيك الالغام بتقوية التيار الاصلاحى وتحييد مؤسسات الدولة المهمة، الا انه يسود الاعتقاد ان فى شرود افكار الدكتور الافندى عن الربيع العربى حنيناً لسيناريو «ربيع إسلامى»، ينتجه تيار الافندى الاصلاحى داخل النظام، وهذا وهم لا يشبهه الا أوهامنا نحن بوجود تيار إصلاحى فى الاساس فقد لخص الدكتور الافندى كل الغرور والتعالى الذى اخفاه لسنين عدداً وقذف به دفعة واحدة، وبعد أن قضى وطره من علاقاته بالمعارضة ومنابرها انقلب عليها مطلقاً أوصافاً لا تقل إسفافاً عن تلك التى أنكرها على بعض اطياف فى تحالف المعارضة، وبعد، فقد أفتى الدكتور الافندى بأن المعارضة تحتاج لمائة سنة لتكون جاهزة للديمقراطية، وأصدر توجيهاته للإصلاحيين أن تمهلوا، وبذلك فإن الدكتور الافندى قد ظلل بالشك مساهماته فى نقد تجربة الحركة الاسلامية فى الحكم، وانه لم يكن ناشطاً فى الشأن العام، بقدر نشاطه فى تلبيس الاصلاح وترقيع النظام والمحافظة عليه تحت ذرائع ومبررات فزاعة المليشيات التى تموج بها البلاد، فهل يعرف الدكتور الافندى كيف نشأت وترعرعت هذه المليشيات؟ وهل هى خطرة على وجود النظام ام على الامن العام والسلام الاجتماعى فى البلاد؟ . لقد تراجع الدكتور الافندى عن النقد ومراجعة الافكار فى اطار من التفكير والتنوير، الى مرحلة التنظير للتغيير بذات الكيفية التى ظل ينتقدها، وهى محاولة احتكار التصرف فى الشأن الوطنى لفئة دون غيرها، والتعالى على الآخر والتعاطى معه على اساس استراتيجية الاستدراج والاضعاف حيناً، ودمغه بالعجز والفشل وعدم القدرة على تحمل المسؤولية حيناً آخر، تمهيداً للوصول لنتيجة ابتغاها الدكتور الافندى وهى أما نحن وإصلاحنا أو هى الفوضى وحروب الشوارع كما يحدث فى سوريا والصومال، أما انتم اهل المعارضة فانتظروا دوركم بعد مائة سنة، لعل الله يخرج من أصلابنا احفاداً يكونون اكثر رحمة بكم منا!! سيدى الدكتور الافندى، ان اى مراقب قد تكون لديه ملاحظات وتحفظات على بطء اداء المعارضة ومدى قدرتها على مواكبة المتغيرات الداخلية والخارجية، فالى من وجهت دعوتك لتعاون الجميع ودعم الاعتدال على حساب التطرف فى كل المعسكرات اذا كان هذا رأيك فى اطراف المعارضة؟ . كما أن انتقاد المعارضة بهذه الطريقة الحادة يفتقر للموضوعية، ولن يضفى أية مشروعية على تحليلاتكم والنتائج التى وصلت اليها، فالثقوب والثغرات فى مشروعكم للاصلاح لا تدع مجالاً للتنبؤ المعقول بامكانية تحققه على ارض الواقع، فهو لم يوضح الآليات التى اعتمدها لتقوية التيار الاصلاحى، وما هى مؤسسات الدولة المهمة التى ترون تحييدها وكيف يتم تحديدها وتحييدها؟ وهل ستقبل هذه المؤسسات المهمة فكرة الحياد؟ وما هو المقابل؟ وهل يمكن بعد ذلك الوصول الى التفاهمات التى يتطلع اليها الدكتور الافندى؟ وفوق كل هذا فالافندي لم يوضح كيف سيتم كف شر شباب المجاهدين الافتراضيين منهم وسافكى الدماء الحقيقيين، وأى من هذه الاشتراطات سيكون حصان طروادة، ان مساهمات الدكتور الافندى وتياره الاصلاحى لا تهدف الا لاعادة انتاج الازمة، وقد حان الوقت للمعارضة أن تدرك رسالة الافندى، وان تضع فى الحسبان لاعبين جدداً يتهيأون للمشاركة فى اللعبة، وأن المنافسة قد بلغت ذروتها لتغيير النظام من الداخل، فماذا تنتظرون؟!