بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    إتحاد الكرة يحتفل بختام الموسم الرياضي بالقضارف    حادثت محمد محمد خير!!    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة نجاح بهرت العالم
أطباء السودان الحفاة
نشر في الصحافة يوم 04 - 01 - 2013

لا شك أن دكتور حسن بلة الامين قد كسب الرهان تماما حين راهن على كتابه الفريد ( أطباء السودان الحفاة قصة نجاح بهرت العالم ) بقوله : ( إني على ثقة ان القارئ المثقف بغض النظر عن خلفيته و تخصصه ربما يجد ما يشده في الكتاب ) .
و يمضي في رهانه في فقرة اخرى قائلا : ( من شاء ان يقرأ الكتاب تراثا طبيا غير عادي فله ذلك ، و من شاء ان يقرأه لإعادة اكتشاف مفاهيم فسيجد بين ثناياه ما يمكن ان يعاد اكتشافه ، و من اراد ان يقرأه اساسا لبناء تنموي حضاري فله ذلك ، و من شاء ان يقرأه توثيقا و تحقيقا لكونه مشروعا و ليس برنامجا فله ذلك ، ومن اراد ان يقرأه لكل ذلك فله ذلك . ان ما كتبته بدءً لاستنهض به من يؤمنون بقابلية السودان للتطور ).
و بالفعل - و رغم انني لا اصف نفسي بالقارئ المثقف الا انني قد وجدت في الكتاب ما شدني اليه فقرأته بفصوله العشرين و صفحاته البالغة مائتين ثمانية و خمسين بنفس واحد و وجدت انني بالفعل قد جاءني زمن متعت فيه نفسي بالدهشة على حد التعبير المدهش للشاعر العظيم عمر الطيب الدوش و وجدتني اوافقه في كل وصف لكتابه بانه اساس لبناء تنموي حضاري و انه بالفعل استنهاض لهمم من يؤمنون بقابلية السودان للتطور و ازيد عليه بانه يصلح اساسا لما نسميه نحن الشيوعيين برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية في مجال الصحة و لطالما اشرنا الى ان الممرضين و المعلمين هم رسل الحزب في الريف ، و قد اشار الكاتب نفسه الى ان الصحة " قضية اجتماعية سياسية بالدرجة الاولى و ليس قضية تقنيات طبية او تقديم تقنيات لمعالجات حديثة " .
و انطلاقا من تقريره بان الصحة قضية اجتماعية سياسية نجده في اكثر من فقرة خلال كتابه القيم يشير الى ما جرته عشوائيات السياسة من مطبات دخلت فيه بلادنا و كان من الممكن تجنبها بقليل من الحكمة . فلدى حديثه عن المرحوم علي بدري او يوسف بدري و تردده عليهم و استفادته منهم يقول :" و كنت احدث نفسي منذ ذلك العهد ان لو كان هؤلاء الرجال الحكماء هم مرجعية الحكم و القرارات المهمة في السودان لما ادخلنا هؤلاء الجهلاء المسلطون و هو التعبير الذي استخدمه طيب الذكر " عبد الله الطيب " ضمن خطاب ارسله للكاتب في لندن لوصف الحكم العسكري الثاني - لقد ادخلنا الجهلاء المسلطون في دوائر الصراع العربي القذر الكدرة و ادخلنا الجهلاء المسطّلون في دوائر الصراع الافريقي القذر الكدرة - فلاحظ عزيزي القارئ المقابلة بين المسلّطين و المسطٍّلين .
و يعود الكاتب مرة اخرى الى ادانة اولئك الساسة و تفريطهم في وحدة السودان فيقول : " ان تصرفات الساسة عبر الخمسين عاما الماضية نالت من هذه الوحدة و لم تؤكدها و لم تحرص عليها و لم تفلح جميع الحكومات التي تعاقبت على السودان - بدرجات متفاوتة - في ادارة التنوع و جعله ضمانا لوحدة ارضه و شعبه " ، و في فقرة اخرى يتأسف بقوله :" و لكن مما يؤسف له فإن السودان خصوصا في الازمان المتأخرة هان على اهله و ولات امره فصار بلدا طاردا غير مستقر " .
في هذا الكتاب الذي نحن بصدده يسلط الدكتور حسن بلة الامين الاضواء على مؤسسة قابلة القرية في السودان حيث انشئت المدرسة الاولى لتدريب القابلات بمدينة أمدرمان في نوفمبر 1920 ، و سبق ذلك افتتاح مدرسة المساعدين الطبيين عام 1918 و اضيف انا من عندي انه في نفس ذلك العام 1918 تم تأسيس نادي الخريجين بأمدرمان و اذا كان المستر سامسونج رئيس النادي قد قال لدى افتتاحه بان هذا النادي سوف يلعب دورا مهما في تاريخ السودان فإننا نستطيع ان نقول بالفم المليان و القلم الواثق ان مدرسة القابلات بأمدرمان قد لعبت دورا مهما في تاريخ السودان اللاحق و ان لم تفعل هذه المدرسة أي شيء سوى انقاذ حياة النساء و المواليد لكفاها ، حيث كانت النساء قبل ذلك يعانين من الولادات المتعسرة و كانت عملية الولادة مرتبطة بالمضاعفات و الوفاة و كانت الولادة عملية مرعبة بسبب الختان و الممارسات غير الصحية و غير النظيفة للقابلات التقليديات غير المدربات " دايات الحبل " مما جعل جميع حالات الولادة غير طبيعية و غير مأمونة .
و يقول المؤلف انه لم يكتب هذا الكتاب لسد فجوة في ادبيات تدريب القابلات و لكن لاكتشافه ان برنامج تدريب القابلات بالسودان لم يكن برنامجا عاديا اذ احتضن و منذ انشائه قبل أكثر من تسعين عاما اغلب ان لم يكن كل المفاهيم السائدة اليوم و التي توصف " بالحديثة " الرعاية الصحية الاولية .
فقد اهدى المؤلف كتابه الى " ارواح نساء عظيمات صدقن النية فعملن فابدعن فاحيين الانفس . المس وولف و شقيقتها جيرترود ، الرائدتين المؤسستين الست جندية محمد صالح المعلمة الاولى و الست بتول محمد عيسى الرائدة التي لم تكذب اهلها و ظلت تعطي حتى آخر ايامها و الى الاحياء من الرجال و النساء اصحاب الرؤية الثاقبة و الحس الوطني العظيم الذين يسعون لتعزيز صحة الانسان في السودان و اسعاده .
و اذا كانت انسانية أي كاتب او فيلسوف تقاس بموقفه من المرأة فإننا نجد الدكتور حسن بلة يخصص الفصل الثاني من كتابه للحديث عن عظمة النساء و يستدل على ذلك بقول طبيبة الاطفال البريطانية الشهيرة " سيسلي وليامز " عن عمل النساء في المهن الطبية " ان النساء يمتلكن حضور البديهة و الصبر و الانضباط و تكامل الشخصية و يظهر كل ذلك في مقدرتهن الفائقة على الاستماع و التبسيط . الرجال لا يطيقون التكرار و يجدونه مملا و لكن النساء يدركن اهمية القيام بالعمل الذي يحتاج لتكرار و يجدن فيه رضاً و راحة نفسية و مثل هذا العمل لا يمكن الاستغناء عنه في رعاية الصغار و الضعفاء " .
و يصف الدكتور حسن بلة النساء بانهن اكثر التزاما بأخلاقيات المهنة و انهن اقرب للعمل من اجل الآخرين احتسابا و ليس اكتسابا و اكثر التزاما لمجتمعاتهن فهن يفضلن البقاء بقراهن و حول اهلهن و بذلك يلبين شرطا هاما من نجاح الخدمة الصحية الا هي الديمومة و الرعاية المتصلة .
و لقد تمثلت هذه الصفات : صفات الصبر و الانضباط و تكامل الشخصية و القدرة على الاستماع و التبسيط و الالتزام بأخلاقيات المهنة و العمل من اجل الآخرين احتسابا و ليس اكتسابا اكثر ما تمثلت في اولئك النسوة اللائي اهدى لهن كتابه : مس وولف و شقيقتها جيرترود ، الرائدتين المؤسستين الست جندية محمد صالح المعلمة الاولى و الست بتول محمد عيسى ، بالإضافة الى م بشائر عباس و احسان عبد الوهاب ، و ست السرة و ست عزة و ست الدون و يمكننا ان نضيف اليهم من عطبرة حليمة ماضي و أمونه ماضي و حليمة عزت و ستنا عثمان و آمنة نوري و عائشة احمد و من دامت لها الدنيا التي اسست مهنة الدايات في اليمن .
فمس وولف وصلت الى السودان في نوفمبر 1920 تحمل معها دمياء تستخدمها في التدريب و كانت قبل ذلك رئيسة تمريض في الفيوم بمصر ، اتت هذه المرأة لتبدأ من لا شيء - مدرسة أمدرمان لتدريب القابلات - و قد اقامت في بيت من بيوت الطين و كانت وسيلتها للتنقل حمارا مستأجرا او المشي على رجليها ، لم تطلب سكنا فاخرا او سيارة و لو طلبت لما استنكر ذلك عليها لان رصفاءها من الانجليز و هم علي مقربة منها كانوا يتمتعون بكل هذه الامتيازات، هكذا يكون نكران الذات و هكذا تكون القيادة الحقيقية تتنزل الى واقع الناس و لا تتعالى عليهم . و برغم معرفتها ببعض الكلمات باللغة العربية بالطريقة المصرية الا انه كان عليها ان تتعلم الدارجة السودانية لكي تلقى قبولا فاستطاعت ان تتمكن منها في وقت وجيز ، و يذكر المؤلف انه عند زيارته لها بإنجلترا بعد اكثر من ستين عاما من تقاعدها عن العمل في السودان اندهش حين سمع منها مقولة سودانية خالصة حين انكسر احد اواني القهوة حين اعدادها حيث قالت : ينكسر الشر " و يعلق د\كتور حسن بلة قائلا " ان تمكنها لما يمكن ان يسمى قاموس النساء في السودان في ذلك الوقت اكسبها احترام النساء و محبتهن " الى جانب مس وولف كانت هنالك جندية محمد صالح و التي اعتقد انها اسم على مسمى فهي بالفعل جندية و يصفها المؤلف بانها الاكثر تميزا و انها الرائدة الاولى العظيمة لمهنة التوليد في السودان و كانت احدى متدربات الفصل الثاني في العام 1921 و تصفها مس وولف بانها " الارملة الشابة الجميلة الذكية " و تتحدث عن شخصيتها الفذة المتكاملة و تفانيها في اداء الواجب مما ترك انطباعا جميلا لكل من تعرف عليها ، لقد ساعدت كثيرا في نشر مهنتي التوليد و التمريض .
حين اصيبت جندية بسرطان الثدي و تدهورت صحتها كتبت مس وولف ضمن تقريرها السنوي عام 1925 ( ان ذهاب الست جندية الذي اقترب سيكون اقصى ضربة للمدرسة انها امرأة ذات شخصية عظيمة و سيكون من الصعب ايجاد البديل لها ) .
حين توفيت جندية عام 1936 كتبت مس وولف بعاطفة جياشة :" في ذات يوم اتمنى ان توضع لوحة برونزية في مدرسة الدايات في ذكرى الست جندية صالح الباشداية الاولى في السودان لوفائها و تفانيها و شجاعتها . لقد توفيت جندية عندما كنت في اجازة مرضية في انجلترا و اخبرتني اختي جيرترود التي رأتها انها و هي ميتة اشبه بالمحارب المجاهد و لعل ذلك افضل ما يمكن ان يكتب على شاهد قبرها " . عند عودة مس وولف قامت هي و اختها بوضع شاهد على قبر جندية كتب عليه : " تذكار من سعادة السيدات وولف :- هذا قبر الست جندية صالح يسن ، داية متخرجة من مدرسة الدايات مدة خدمتها من 1921 الى 1935 توفيت يوم (19 / 11 / 1936) . و قد قام المؤلف بتصوير شاهد قبرها بمقابر احمد شرفي بأمدرمان . و في لمسة انسانية قامت الاخوات وولف بدفع اجرة البيت الصغير الذي كانت تسكنه جندية و قد قام الدكتور ديفيد مورلي بعمل اللوحة البرونزية التي تمنت مس وولف في مدرسة الدايات بأمدرمان وفاء لذكرى الست جندية صالح .
كل ما استرسلت في القراءة في هذا المؤلف القيم عن نماذج النساء اللائي بدأن العمل في تأسيس مدرسة القابلات في أمدرمان تجدني اتذكر النساء الايجابيات الراغبات و القابلات للتطور ضمن روايات الطيب صالح حسنة بت محمود و حواء بت العريبي ، و فاطمة بت جبر الدار و نعمة بت محمود التي كان محور حياتها حسب وصف الراوي الشعور بالمسئولية و القيام بتضحية ما ، و التي كانت تتمنى ان لو اسموها رحمة بدل نعمة .
فبالإضافة الى جندية صالح نطالع سيرة بتول محمد عيسى التي جاءت من رفاعة و لم تترك عملها الا عندما ارتاحت الى الرفيق الأعلى و لم تجن من حطام الدنيا شيئا بل انها على يقين بان ما قامت به في خدمة الغير كان صدقة جارية فغرست بذلك كل هذا التفاني في كل المتدربات اذ كانت لهن المثل الأعلى الذي يعتزى به ، و قد كتبت مس وولف قائلة : " كانت بتول الداية السودانية الرائدة في تعلم ركوب الدراجة و هي مرتدية ثوبها رغم المعارضة الشديدة لذلك . لقد كانت رغبتها و اصرارها هي المثال الذي مهد الطريق امام الدايات الاخريات لركوب الدراجة ، انها بحق امرأة غير عادية في توجهها و نظرتها للحياة " .
لم يؤثر العمر على ادائها فقد كانت تعمل بلا انقطاع كالنحلة داخل المدرسة و هي فوق الثمانين ، لم تتقاعد و لم تخلع مريلتها و ساعتها اعلى ذراعها الايسر حتى قبيل وفاتها انها صاحبة اطول و اروع سجل في عمل التوليد في السودان و في خدمة الناس .
و قد ذكر المؤلف انه حين قدم محاضرة عن الصحة الريفية لأطباء و طبيبات الدراسات العليا بكلية الطب جامعة الملك فيصل بالسعودية و اتى على ذكر بتول محمد عيسى و ما كانت تقوم به من ادوار ما كان من احدى الطبيبات الا ان وقفت و قالت : " هل بالإمكان ان نرتب زيارة للسودان لنقابل ست بتول و نرى ما تفعل ؟ " و ظلت هذه الطبيبة و زميلاتها و زملائها يلاحقونه لترتيب الزيارة التي لم تتم ، و في محاضرة اخرى قدمها المؤلف في مستشفى آخر قاطعه جراح سوداني قائلا باللغة الانجليزية ما ترجمته :" لقد جعلتني اشعر كما لم اشعر من قبل بالفخر كوني سودانيا " .
لله در اولئك النساء الشامخات اللائي اسسن مدرسة كان من اهدافها حسب ما هو مشار اليه في تقاريرها السنوية تحقيق وجود قابلة او اكثر نظيفة و متنورة و حسنة التدريب في كل قرية من قرى السودان و كانت القاعدة التي عمل بها مؤسسو البرنامج " فكِّر كبيرا و ابدأ صغيرا و لكن تحرك الآن " . لقد كان هدفهم الاكبر هو تغطية كل السودان بهذه الخدمة الحيوية الاساسية ثم بدأوا " صغيرا بمدرسة واحدة هي مدرسة الدايات في أمدرمان في العام 1921 و تدرجوا في فتح مدارس الدايات في الاقاليم ، و الذي يطّلع على تاريخ افتتاح المدارس يدرك معنى التدرج في التطوير و هنا لا يفوت المؤلف ان يقارن ذلك بالتوسع السريع و العشوائي في المؤسسات التعليمية و التدريبية في ايامنا هذه و ما ترتب عليه من تدني مستوى من يتخرجون في هذه المؤسسات و يقول المؤلف : " علينا ان نتعلم من هذا الدرس العظيم في النجاح عند تخطيط و تنفيذ أي برامج تعليمية او تنموية في بلادنا ان تجئ ضمن خطة مدروسة من اصحاب الرأي و الاختصاص لا من السياسيين الذين تهمهم المشاريع التفاخرية و الانطلاق من ثورة الى ثورة في التعليم يعني فتح عشرات الجامعات مرة واحدة دون ان تكون هناك البني التحتية او الاساتذة المؤهلون فتتحول المدارس الثانوية الى جامعات و المباني المستأجرة الى مؤسسات تعليمية " و اللبيب بالطبع بالإشارة يفهم او بالبلدي كدا " اسمعي يا جارة نقر الحجارة ".
لقد كانت الفقرة اعلاه من هذه المساهمة ضمن الفصل السادس عشر الذي جاء بعنوان " قابلة القرية : كيف تحقق النجاح الذي بهر العالم ؟ "
و بحسب المؤلف فالمتأمل في مسيرة مؤسسة القابلات منذ نشأتها يدرك ان المحافظة على الجذور الثقافية للمجتمع في التدريب كانت من اسباب نجاح القابلة في عملها ، كان لدى المؤسِسات قناعة بان الصدام مع الثقافة المحلية بغض النظر عن سلبياتها سيكون عامل هدم و كانت السياسية المتّبعة الاعتراف بواقع المجتمع و احترام عاداته و تقاليده اياً كانت ، و ان كانت هناك سلبيات فالإسلوب الناجح هو التدرج في التعامل معها ، و لذلك قضت مس وولف وقتا قبل بدء برنامج التدريب تتعلم اللغة المحلية و تكتشف العادات و التقاليد لكي لا تقع في صدام معها ، فعلى سبيل المثال تشجع القابلة و تسمح بالنساء كبيرات السن بدعم النفساء معنويا و نفسيا و تشجيعها حيث كان من المألوف ان يزدحم بيت المرأة النفساء بهؤلاء النسوة يتابعن الام في حالة المخاض خطوة بخطوة و طلقة بطلقة و عندئذ تقول كبراهن للبقية :" لندعو لفلانة و نبدأ بالصلاة على النبي و من ثم يبدأ الجميع في تكرار الاهزوجة الشهيرة :
يا حلال الحاملا
من غلاما جاهلا
البضيقا و يمهلا
جبريل ناجا ربو و جا
و حلالا الما بدور جزا
يا حلّال حلّها
و يا بلّال بلها
العقّد الامور الأمور هو بحلها
و بالطبع كان في ذلك رفع عظيم لمعنويات المرأة في المخاض و شعور بالأمان و الاطمئنان و ان الامور ستسير على ما يرام حتى النهاية السعيدة المرجوة و صرخة المولود للحياة . و كانت القابلة تعلّم الام الطريقة الصحيحة لاستحمام الطفل و تشارك الاسرة في رحلة الذهاب الى النهر في المناطق النيلية لغسل وجه و ارجل الوليد تيمنا بماء النيل المبارك .
و لم يكن من السهل استمالة الحوامل لعيادة رعاية الحُمّل عندما بدأت هذه العيادة و هنا تجلّت عبقرية مس وولف و من بعدها من الباشدايات السودانيات حين فكروا في استخدام مثل او تشبيه يسهل فهم النساء لأهمية متابعة الحمل فوجدن ضالتهن في الحَلّة فكان منطقهن مع النساء :" اذا كان لديك حلة على النار هل كنتِ لتتركين الطعام ليحرق و يتلف ام انك تكشفين الحَلة من وقت لآخر لترى حالة الطبخ ؟". لقد كان هذا المثال مقنعا و منطقيا للنساء فجئن لمتابعة الحمل في العيادة التي اقيمت في مدرسة الدايات و من يومها صار كشف الحَلّة مصطلحا معروفا للرعاية اثناء الحمل حتى في المستشفيات . بعد تبني مفهوم كشف الحَلّة جاءت النساء الحوامل بأعداد كبيرة في السنة الاولى 1930 و منذ ذلك الوقت صار كشف الحَلّة شيئا محبوبا لدى النساء .
و واصلت الدايات ابتكار الوسائل للتواصل مع النساء و سوف نواصل البلاغة في الايجاز و الواقعية في النصيحة و علاقة كل ذلك برعاية المرأة اثناء الحمل في نصائح الداية للمرأة الحامل :-
" الداية لازم تفّهم المرأة الحامل بالمَثَل فتخاطبها قائلة : لما دايرة تبني بيت يا قطية جديدة بتجيبي بنّا شاطر و لا بنّا غشيم ؟ لازم اساس البيت يتخته سمح و الشِعبة متينة في شان تسند العرِش و ان كان العرِش ما سمِح المطر بتخسّر البيت ، المرة الحامل لازم تشبه البنّا الشاطر في شان هي لازم تخُت اساس الجني سمِح لحدي العرش ان كان دايره صحتها و صحة الجنا تكون شديدة . الاهمال و الكسل في جية الحامل للكشف و لما هي ما بتسمع و لا بيستعمل نصايح الداية ممكن يسبب ضعف يا مرض للام و للجني في البطن ، و حتى ان كان الجنى يتولد حي و يعيش ممكن طول عمرو صحتو ما تكون شديدة بسبب الام ما ختت اساس سمح " .
و نتيجة لهذه الجهود الجبارة كان من الثمار المبكرة في مؤسسة القابلات ان تمت التغطية العالية بخدمة التوليد و وصولها الى الغالبية العظمى في القرى و الاحياء فمنذ اواخر الاربعينيات من القرن المنصرم تمت تغطية اكثر من 60% من السكان بهذه الخدمة الضرورية و انحسرت وفيات الامهات بسبب الحمل و الولادة و انحسرت وفيات الاطفال خصوصا من مرض التيتانوس و اجتازت المؤسسة اختبار الزمن .
بقي ان تعرف ان الباشدايات السودانيات المشرفات على هذه المدرسة كنّ أميّات لا يعرفن القراءة و الكتابة و هذا ما يؤكّد قابلية السوداني للتطّور الامر الذي نوّه له المؤلف منذ بداية الكتاب .
الفصل التاسع عشر من الكتاب خصصه الكاتب للواقع المُر لمؤسسة القابلات اليوم حيث تحسّر على مصير مدرسة القابلات بعد ان اصابها ما اصابها من تآكل حيث اهملت مدارس القابلات و لم تنشأ مدارس جديدة بل وصل الحال الى اغلاق بعض المدارس بمبرر ضعف الميزانيات لإجراء اعمال الصيانة و غيره و اهمل التدريب و الاشراف و تناقص عدد القابلات في القرى و الارياف و المناطق النائية و نتج عن ذلك ارتفاع غير مسبوق في وفيات الامهات حيث بلغ عدد وفيات الامهات بسبب الحمل و الولادة و فترة النفاس في عام 2009 ذروته و تراجع السودان للخلف ليحتل الصدارة في معدلات وفيات الامهات عالميا حيث وصل المعدل حسب الارقام الموثوقة بين 500 الى 2000 حالة وفاة في كل 100 ألف حالة ولادة فهذا اعلى معدل لوفيات الامهات في العالم .
و بالطبع فالحال من بعضو لأن العقلية الطفيلية الشريرة التي دمّرت مدرسة الدايات لتفتح الباب للمستشفيات الخاصة مستشفيات خمسة نجوم عالية التكاليف هي نفس العقلية الطفيلية الشريرة التي دمرت السكة حديد و مشروع الجزيرة و معهد بخت الرضا و مدرسة جبيت الصناعية و تواضع امامهم تأثير الثور في دكان الصيني لأن ذلك الثور المسكين اكتفى بان كسّر الصيني بحيث يمكنك ان تعالجه بصباع امير او خلافه و لكن الثور الذي سلطته الطفيلية على الصيني لم يكتفِ بان يكسِّر الصيني و لكنه بعد ان كسّره انسحك فيه و طحنه طحنا محوّلا اياه الى دقيق و هباء لا يمكن معالجته فقط تتعوض فيه صاحب العوض ، و بالفعل هم مجموعة اوباش جاءوا من الغابة لتوهم و ليتها كانت غابة طبيعية و لكنها غابة طبقية جمعت اسوأ ما في المملكتين : الانانية و الحقد الطبقي .
عطبرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.