بحلول هذا الشهر الميلادي تكون الازمة في دارفور قد بلغت سنتها العاشرة بالتمام والكمال، عاماً وراء عام، شهراً بشهر، يوماً بيوم، وساعة بساعة، وأهل دارفور مقسمون بين معسكرات النزوح ومخيمات اللجوء، وآخرون يحملون السلاح يقاتلون اخوانهم في الطرف الآخر، وهنا لا توجد منطقة وسطى، إما ان تكون في المعسكر الرسمي او في معسكر البدون، وفي كلا الحالتين انت الخائن والضحية وانت السبب، ازمة تشيب رأس الفتى وتذهب لب الحليم، اهم الاطراف فيها ينتمون الى رب واحد ودين واحد وقبلة واحدة والى فصيل واحد.. أزمة دفع ثمنها كثير من الابرياء وقبض ثمنها قليل من الانتهازيين ومصاصي الدماء، وعبث فيها العابثون وولغ من كأسها كثير من كلاب ضالة وجدت ضالتها في أطهر ارض واشرف خلق. أزمة لها جذور شرحها يطول، ولكن الذي لا خلاف عليه هو ان جهل الداخل السوداني بتعقيدات وتقاطعات الداخل الدارفوري اضر بالقضية، كما ان جهل ومكر الخارج الاقليمي والعالمي بتفاصيل الداخل السوداني وخصوصية دارفور ادى الى اضرار مركبة بالسودان وبالتالي بدارفور، فالجميع تدخل في دارفور بفهم ناقص وطمع مكاسب، ولم يضع في الحسبان اي اعتبار لردود الفعل. ومن كان يظن ان احتكاك بين راعٍ ومزارع ودية قتيل تفتح ابواب الجحيم على البلد بأسره. قبل عشر سنوات وفي مثل هذه الايام، لاحت ارهاصات بأن الامور في دارفور ليست على ما يرام، وان هناك شيئاً ما يدور «في وحول» منطقة جبل مرة، اجتمع له نفر كريم من ابناء قبيلة الفور، في مؤتمر نيرتتي، وبحضور رسمي ورعاية خرج المؤتمرون بتوصيات عاجلة تدعو لاهمية فرض هيبة الدولة ووقف التدهور المريع للاوضاع في مناطق الفور والاستهداف الانتقائي لافرادهم وممتلكاتهم واراضيهم، ومن قبل عقد لقاء على سفح الجبل في مدينة «كاس» تدافعت له اكثر من ستين قبيلة عرفوا بقبائل «في وحول» جبل مرة، والامر اللافت ان قبيلة الفور اكبر قبائل دارفور كانت اول الغائبين واسترعي انتباهي ذلك، فهل كانت هذه بداية الاصطفاف لمعسكرين؟ احدهما يوالي الدولة والآخر يناصبه العداء العرب والزرقة او كما يقولون زيفاً وزوراً الفتنة بدأت تطل برأسها، والناس حالهم حال سعد أيام الفتنة، قالوا له اخرج نحارب فرفض واشترط ان يأتوا له بسيف له عينان ولسان ينطق هذا كافر فاقتله وهذا مؤمن فاكف عنه، وهذا مستحيل، فاعتزل وضرب لهم «مثل القوم كانوا يسيرون في محجة بيضاء اذ هاجت ريح عجاجة، فاخذ بعضهم يقول الطريق ذات اليمين وآخرون يقولون الطريق ذات الشمال، وجميعهم ضلوا وتاهوا، وآخرون اناخوا عند هبوب الريح، فاصبح الصباح وذهب الريح، فتبين الطريق وواصلوا». وما أكثرالعجاج والهبوب وعواتي الريح في دارفور، فالجميع انقسم فلم يتبين الطريق. ودارفور عشر سنوات في عيشة حرب ومعصية رب، كثيرون مثلي ظنوا انها ايام وليالٍ وتعدى وتعود الامور، بعد أن يتم القضاء على عصابات النهابين وقطاعي الطرق وأبناء الذين لا يعرف من اين اتوا، من أين اتي هؤلاء؟ انا اتساءل فقط!! قالوا لنا سوف يتم القضاء عليهم ويرفع التمام وتعود دارفور سيرتها الاولى في أمان في سلام. والجميع ادار الازمة بالازمة فصارت أزمات وتعقدت المشكلة فصارت مشكلات اخذت بتلابيب البلاد والعباد. وفي مثل هذه الايام وفي مثل هذا الشهر من عام 2003م، دعينا على عجل لحضور ملتقى الفاشر للقيادات للتفاكر حول انجع السبل لاحتواء الازمة الناشئة حول جبل مرة، ولم اتمكن من الحضور لارتباطي بملتقى المبادرات المجتمعية الفائزة باديس ابابا لسوق التنمية، وقد شاركت بمشروع عن تعزيز السلام في دارفور بدعم الآليات التقليدية في فض النزاعات، ومن داخل قاعة المؤتمرات حدثني احد الاخوة بالهجوم على منطقة قولو في جبل مرة، وان تنظيماً عسكرياً يدعى «حركة تحرير دارفور» استولى على المنطقة، وأعلنت عن نفسها من خلال بيان منفستو يعتبر الاول من شاكلته، لأننا في دارفور لم نسمع قبل ذلك التاريخ عن اي بيان لاي تنظيم او حركة في العلن. ونزل الخبر كالعاصفة ما هذا! ونحن نحاول ان نلملم الامور اذا بنا نفاجأ، وعدنا الى السودان، ومنذ ذلك اليوم وملفات دارفور تلازمني ليل نهار بين جوانحي وضلوعي بل تكسوني، وحالي حال كثيرين من اهل دارفور الذين عاشوا في دارفور ايام سيرتها الاولي سلاماً واماناً، ولكن دوام الحال من المحال. دارفور عشر سنوات من الادارة بالازمة والفشل هو العنوان البارز، لم يسعفها دينها ولا حكمة ابنائها ولا تجربتها من الوقوع في الفخ والحرب بالوكالة واداء ادوار بلا مقابل، والبيع بالثمن البخس وسو ء الكيل. عشر سنوات وعشرات المحاولات والمبادرات ذهبت مع الريح، ولم يستطع طرف مسح الآخر من الوجود، ولم يحقق اي نصر مبين، والحالة اشبه بالجمود، وما اخطر حالة الجمود خاصة اذا استمرت فترة طويلة. فهذه الحالة تساعد على ظهور مجموعات متفلتة تنمو ولا تنتمي الى جهة.. ترتكب فظائع تقتل وتنهب وتخطف وتحرق، وخطورة هذه المجموعات انها تعيث الفساد وتنسبه للاطراف، مما يزيد من فجوة عدم الثقة بينها، الامر الذي يديم أمد الصراع. عشر سنوات لم نسترح فيها ونخلد للنوم مبكرين، ولم ننعم فيها بنهاية هذا الفيلم السوداني الدارفوري الحزين، اخراجاً وتمثيلاً بالاشتراك مع آخرين دوليين تمويلاً وترويجاً وأدوار الكمبارس، واللافت هو تداخل الادوار، فقد يتحول المخرج الى ممثل والممثل الى مخرج والبطل الى خائن والخائن الى بطل، فيلم ممل يصيب المشاهد بالغثيان، فكلما اقترب من النهاية ظهر على الشاشة من يقول «البطل ما بموت».. يموت الجمهور وناس دارفور، والابطال والخونة يتعانقون على الشاشات يرددون انتهت الحرب ويبدأ الفيلم من جديد.. عشر سنوات ونحن في هذا الحال. ثم ماذا بعد هذا؟ ما الجديد أيها السادة في العشرية الثانية وما المطلوب؟ المطلوب هو تغيير النهج الذي اتبع في العشرية الاولى، والا فالنتائج هذه المرة كارثية، ولا احد يريد تكرار الاخطاء، ومن اكبر الاخطاء التي ارتكبت في خطة المعالجة للداء هو عدم الأخذ بإشارات المريض الذي يشير الى مكان الالم، وهو خير من يصفه، ولكن المعالجين يصرون على علاج وجع الرأس «محل وجع تخلوه وتمسكوا ضفيرتو» كما يقول شاعرهم، فلا بد من الاستماع والرجوع إلى أهل الجلد والرأس، وهنا يأتي دور اهل دارفور في تقديم مقترحات الحلول. وخيرا فعلوا عندما التقوا بمدينة الفاشر وناقشوا وأوصوا باختيار نفر من ابنائهم ليقوموا بمهمة الاتصال بإخوانهم الذين مازالوا بالخارج، لينقلوا لهم رؤية اهلهم في دارفور حول القضية التي هم جميعاً اهل مصلحة فيها وتتطابق وجهات النظر حولها وتختلف، ولكن تظل القضية هي هي، واهل دارفور يتساوون امرأة ورجلاً، عودهم واحد، وندبوا هؤلاء النفر من بينهم لينقلوا الرسالة ويقولوا لهم إن اهلكم بالداخل صمدوا عشر سنوات كما صمدتم، ويعلمون انكم رفعتم السلاح عندما اوصدت ابواب الحوار، ولكن اليوم مواربة، فلماذا لا نكمل ما تحقق من إنجاز لاهل دارفور بالحوار.. صحيح السلاح وسيلة ولكن ليس في كل الاوقات، ولأول مرة في تاريخ الدارفوريين يجتمعون على أمر وهم المعروفون بالخلاف، والمرة الاولى التي تتاح لهم فيها الفرصة دون تدخل من احد في السابق كانوا يشكون فيها من أيادٍ خارجية. واليوم التحدي كبير امام اهل دارفور وليست اللجنة، فقد وجدت اللجنة مباركة من قيادة الدولة ومن الدارفوريين اهل المصلحة، ومن الحركات غير الموقعة. اذن يقع على عاتق اللجنة تنظيم الخلاف بين الاطراف ونقل وجهات النظر وتقريب الشقة بين الاطراف، فهي غير مسؤولة عن الفشل، الفشل، لا قدر الله، فشل الاطراف، فهي تقوم بدور كبير عجز عنه كثيرون لأن العملية السلمية مهمة فاعلين وشركاء كثر اذا اخلصوا النية وأحسوا بالمسؤولية، وحتي لا تصعب اللجنة المهمة على نفسها عليها العمل وفق خطتها التي وجدت قبولاً من جميع الاطراف، وهي لا تملك عصا سحرية ولا عصا موسى بضربة واحدة تحل مشكلة استعصت على حكومات ودول ومنظمات، فهي ليست لجنة وساطة ولا لجنة مفاوضات، ولا تملك تفويضاً على بياض، هي تملك اكبر من ذلك هو القبول من الجميع الذي إذا احسنت استغلاله تحقق الكثير، فاللجنة بعدم تصنيفها وبشكلها الحالي يمكنها القيام بالدور، فهي من ناحية الاشخاص مقبولة ومن حيث الفاعلية مشهود لأعضائها، وفرصة نجاحها اكبر على عكس ما استبق بعض الصحافيين بالحكم على اللجنة قبل أن تبدأ عملها، ومن دون ان يفهموا طبيعة عملها، فهذه لجنة دارفورية خالصة ذات خصوصية وتعمل وسط الدارفوريين وطرفي النزاع الحكومة وحاملي السلاح من ابناء دارفور، فرئيس اللجنة صديق ودعة ناشط دارفوري لقضايا السلام والتنمية منذ بداية الأزمة، وهو صاحب اول مبادرة دارفورية من أجل السلام، وطاف بها بلاد الدنيا من لندن الى ابوجا ومن كمبالا الى باريس وكل دول الجوار، وبالداخل جال في دارفور مبشراً، ولم يغمض له جفن ودارفور تنزف، وعمل مع اخوانه بالداخل ومع الحكومة من أجل نهاية سلمية لأزمة دارفور، ووظف في سبيل ذلك وقته وماله وعلاقاته، وكل ذلك اهله لرئاسة اللجنة، وهو الأدرى بالداخل الدارفوري والخارج، اما بقية اعضاء اللجنة فقد تم اختيارهم بعناية، فلهم قبول ودراية، وعملوا وعلموا وتعاملوا مع القضية، فهم يفهمون ابعادها وتقاطعاتها جيداً من خلال تجاربهم خلال السنوات العشر الماضية، فقد تفحصت أعضاء اللجنة فرداً فرداً وتتبعت مسيرتهم وأنا المهتم بالشأن الدارفوري، وخلال العقدين الاخيرين جمعتني بهم ساحات العمل الدارفوري، وعملت مع غالبيتهم عن قرب، فهم خير من يمثل الداخل الدارفوري، وطبعاً النجاح توفيق من الله، ولكن المهم النية، فشخص مثل الشيخ موسي عبد الله حسين هو محل محبة الملايين من المريدين على طول البلاد وعرضها وصاحب مبادرة اهل الله، وبقية اللجنة أصحاب خبرات مختلفة وتجارب، فمنهم سياسيون محترفون وبرلمانيون مخضرمون وقيادات أهلية صقلتهم التجارب، وناشطون فاعلون من منظمات المجتمع المدني، وأساتذة جامعات وقانونيون، وقيادات دارفورية شابة تعمل لهدف واحد هو تحريك الجمود وإكمال العملية السلمية، ولا شك أنها مهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة.. وما التوفيق إلا بالله.