المتأمل للمراجعات الصادرة عن بعض رموز الحركة الإسلامية في السودان لتجربتهم في الحكم، سوف يلاحظ فيها نزوعاً مضمراً لتبرئة الذات من خطيئة تدبير الانقلاب الذي أطاحت هذه الحركة من خلاله النظام الديموقراطي. ومع ذلك خلت هذه المراجعات من الاعتذار المُعبِّر عن صحوة ضمير ونقدٍ للذات جراء مباركة الانقلاب والمشاركة في النظام المنبثق عنه. وبدلاً من الاعتذار، لم يدَّخر أغلب هؤلاء المراجعين جهداً في توجيه النقد اللاذع لواقع ما قبل الانقلاب لتبريره، وبالتالي تبرير مباركتهم له ومشاركتهم في مفاعيله وأفاعيله. حوار المراجعات الطويل الذي أجراه الأستاذ حسين خوجلي مع د. غازي صلاح الدين، وبثته قناة «أم درمان» الفضائية الأسبوع الماضي، يكشف عن هذا النزوع لتبرئة الذات من وزر الانقلاب، كما يكشف عن تباعد المسافة بين الرأي والموقف. وابتدر د. غازي حديثه، رداً على سؤال محاوره الأول، بتأكيد رفضه استعمال القوة لتغيير النظام الذي يسمح بالحرِّية، قبل أن يلوذ بالسِّياسة ويستدرك قائلاً: «لكنني بوصفي سياسياً أعلم أنَّ الظروف لا توافيك كثيراً بالشروط التي تطلبها، وقد تجد نفسك مرغماً على اتخاذ موقفٍ بعينه لِتُحصِّل أفضل النتائج». ثمَّ عاد ليؤكِّد براءته من المشاركة في تدبير الانقلاب منوهاً بأنه لم يكن من جماعته في مواقع القيادة العليا التي اتخذت قرار الانقلاب، وأنه كان خارج البلاد أوان اتخاذ القرار، ومشيراً في الوقت نفسه إلى أنَّ قراراً مثل هذا لم يكن يستوجب موقفاً شخصياً لكون الموقف الشخصي مُصادَر لصالح الجماعة، وذلك قبل أن يُورد الحيثيات التي اتكأت عليها الجماعة لتبرير قرار الانقلاب، والتي بدت أوهن من أن تقنع مستمعيه، حتى اضطُّر إلى أن يُشكِّك فيها بقوله: «لو أنَّ الحيثيات عُرِضت باستيفاءٍ كامل للمقاييس التي تُقاس بها القرارات في مثل هذه اللحظات، لربما كان القرار مختلفاً». ما ذكره د. غازي عن مصادرة الموقف الشخصي لصالح الجماعة، يكفي شاهداً على مأزق مثقفٍ يمتلك الوعي وينتسب إلى النخبة ثم يقبل أن يكون تابعاً، في قضية مبدئية، لا يسمح للأسئلة والهواجس أن تتسلل إلى عقله وتتحول إلى مُساءلات، ويعمَد إلى استعارة مفرداته من مُعجمٍ غابر متماهياً مع قول دريد بن الصمة في شعره الجاهلي: «وما أنا إلَّا مِنْ غزية إنْ غوَتْ.. غوَيتُ وإنْ ترشدْ غزيةُ أرشدُ». وقد يتساهل البعض ويقبل حديث د. غازي كونه فضَّل الانضباط التنظيمي والانصياع لرأي قيادة جماعته على الانسجام مع رأيه الرافض لانتزاع الحكم بالقوة بحسبانه انخدع مع المخدوعين، لو كان حديثه هذا صبيحة وقوع الانقلاب الذي أتى مُرْهِصاً بإنقاذ السودان وتحويله إلى يوتوبيا «مدينة فاضلة» مُحرَّرة من الظلم والفساد والشرور والآثام، ولكن يصعب على المنطق السليم أن يقبل مثل هذا الحديث بعد انصرام أكثر من عشرين عاماً حوَّل فيها النظام الانقلابي السودان إلى ديستوبيا «عكس المدينة الفاضلة» شحَّت فيها الكوابح الأخلاقية وشاع فيها الظلم والفساد وكلُّ أنواع الشرور والآثام، بينما لم يجد مُحدِّثنا طوال هذه الأعوام العجاف على وطنه وشعبه ما يحمله على مفارقة النظام، ناهيك عن معارضته، بل ظلَّ مُمتثِلاً لشروط سلطته ومُتبوئاً مقعده من جنَّتِها متنقلاً به بين المواقع التنفيذية والسيادية والتشريعية، حتى عُدَّ مع آخرين من «ثوابت الإنقاذ». أمَّا إشارة د. غازي إلى خطورة قيادة المجتمع المدني بواسطة العسكريين، فتدعو إلى الاستغراب في ظِلِّ مشاركته الطويلة والفاعلة في نظامٍ اعتلى ذروة سنام هيكله القيادي عسكريون، بدءاً بمجلس قيادة الثورة «العسكري» وانتهاءً برئيس الجمهورية الذي لم يتقاعد عن الخدمة العسكرية إلَّا قبيل الانتخابات العامة الأخيرة. وربَّما يكون من الذكرى النافعة أن نشير هنا إلى موقفٍ مغاير اتخذه مثقفٌ آخر، وطبيب مثل غازي، هو المرحوم د. مبارك شدَّاد، وذلك حين نقل إليه ممثلون عن جبهة الهيئات رغبة الجبهة في تكليفه برئاسة الحكومة الانتقالية بُعيد ثورة أكتوبر المجيدة، ورغم ما في ذلك من تشريفٍ ومجدٍ شخصي، إلَّا أنَّ مباركاً لم يتردَّد في الانسجام مع ذاته والاعتذار عن التكليف عندما علم أنَّ هناك اتفاقاً يقضي باستمرار المرحوم الفريق إبراهيم عبُّود رأساً للدَّولة. ثمَّ كان ما هو معروف من تكليف د. سر الختم الخليفة برئاسة الحكومة الانتقالية وتنحي الفريق عبُّود بضغطٍ من ثوار أكتوبر وتنصيب د. مبارك بعد ذلك عضواً بمجلس السِّيادة. تركَّزت حلقة الحوار في مجملها حول الهَم التنظيمي للإسلاميين ومآلات مستقبل حركتهم «الضيف ومحاوره في هذا الهَم شرق»، وجاءت كسابقاتها من مراجعات الإسلاميين التي وصفها د. حيدر إبراهيم بأنها «أقرب إلى المراثي والبكاء الحزين علي الماضي والندم العقيم على اللبن المسكوب» .. وكان لافتاً أن يختتمها د. غازي باعترافٍ أبان حيرته وشعوره بمأزق الاختيار، وذلك عندما أشار بوضوح إلى أنه «مُتنازَع بين من ينتظرونه للنجدة والمحافظة على ما هو قائم حتى لا تكون فتنة». ويبدو، حتى الآن، أنه اختار المحافظة على ما هو قائم، وهو نفس الموقف الذي وقفه بين يدَيْ مؤتمر الحركة الإسلامية الأخير عندما اختار ألَّا تكون الأولوية للنقد وإنما لكلمات «توحِّد الصَّف والتئام الجراح»، على حدِّ تعبيره في مقالٍ سابقٍ نشره تحت عنوان «تحرير الخلاف».. مأزق الاختيار هنا أنَّ غازي، قبل سواه، يعلم أنَّ «ما هو قائم» قد وصل إلى أقصى ما يمكن تخيله من رداءةٍ وتيهٍ واستنقاع، كما يعلم وهو خرِّيج كلية الطِّب أنَّ الطَّبيب الذي يخفي عن مريضه أسباب مرضه أو يخيط جُرحه ويغلقه على الصديد، لا يكون قد حنث بقسم أبقراط فقط، وإنما يكون كمن حكم على مريضه بالإعدام.