القوة المشتركة تكشف عن مشاركة مرتزقة من عدة دول في هجوم الفاشر    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. حسناء أثيوبية تشعل حفل غنائي بأحد النوادي الليلية بفواصل من الرقص و"الزغاريد" السودانية    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    اللجنة العليا لطوارئ الخريف بكسلا تؤكد أهمية الاستعداد لمواجهة الطوارئ    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فِقه الخِصام والوِئام في قاموس السيدين (1) ... بقلم: فتحي الضَّو
نشر في سودانيل يوم 08 - 03 - 2010

أنهى السيدان الصادق المهدي ومبارك الفاضل خصومة فاجرة امتدت زهاء السبع سنوات. تمَّ ذلك في احتفال جرت وقائعه اوآخر الاسبوع الماضي 26/2/2010 وشهدته طائفة من كيان الأنصار ومنسوبي حزب الأمة. وفيه ألقى المختصمان بخطابين، نأمل أن تكون قد روت ظمأ السامعين والقارئين من ناشطي الحزب والحادبين عليه. بل نحن نأمل أيضاً أن يكون ذلك آخر الأحزان في البيت العتيد. والذي دأبنا على نقد بعض ما يدور في أروقته من منطلق حرصنا على ممارسات سياسية مبرأة من العيوب، بغية أن تكون معاوناً وظهيراً لنظام ديمقراطي مثالي، يُرجى منه أن يضع البلاد في مصاف الدول المتقدمة سياسياً والمزدهرة حضارياً. ومن هذا المنطلق وامتداداً لما نذرناه لوجه الله والوطن نستوقف أنفسنا متأملين هذه المناسبة، ومستخلصين دروسها وعبرها، حتى لا تنتج الأزمة نفسها في قالب جديد. فكلنا يعلم أن ظاهرة الخصام والوئام ليست وقفاً على حزب الأمة وحده، فهي من السلبيات التي رُزئت بها القوى السياسية السودانية، ولازمتها منذ فجر (الاستقلال) وحتى عصر (الاستغلال) ولم يسلم من شرورها حزباً، عقائدياً كان أم تقليدياً. ولا شك أن تلك خاصية كان لها نصيباً وافراً في عدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي جعلت منه المؤسسة العسكرية سبباً ذرائعياً للانقاض على السلطة، ثمَّ رسخت به ما هو أسوأ.. نُظماً أوتوقراطية شمولية استبدادية قاهرة، اجتهد جلاوزتها ما وسعهم في إلهاب ظهور البشر بشتى صنوف العذاب، المادي منه والمعنوي. ولهذا لم يكن غريباً أن تكون هذه الممارسات سبباً - بعد حين – في تحريك نوازع الغضب والتمرد والثورة في صفوف الجماهير، والتي تسعى جاهدةً لخوض معركة استرداد العرش السليب، وهي المعركة التي لا يستطيع أحد التحكم في آلياتها، مثلما لا يستطيع أحد التبوء بمآلتها في سجال قد يطول أمده وقد يقصر، لكن الثابت أنه ما أن يحين قطافها، حتى تجيء تلك القوى، تبكي مُلكاً مُضاعاً، كما حال أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس. على كلٍ تلك هي الصورة البانورامية التي أصبحت حكراً على الواقع السياسي السوداني، والتي أطلق عليها كثير من المراقبين السياسيين.. مصطلح الدائرة الخبيثة حيناً، والدائرة الشريرة أحياناً أخر..ولكن أياً كانت هويتها، فالثابت أن كليهما يدوران في حلقة مفزغة لامفرغة.. عطَّلت تقدم البلاد، وأرهقت كاهل العباد، بل جعلت من قُطِرهم العظيم نموذجاً للتخلف والتقهقر والاستلاب!
إن الحديث عن مصالحة حقيقية لا يتأتى إلا بمخاطبة جذور الأزمة، وهو أمر يبدو أن كلا الطرفين يريدان أن يعبرا فوقه كما تعبر المُزن المثقلة من فوق أرض يباب، ولا سبيل لإستمطارها بدعاء العاجزين أو صلاة استسقاء الطامحين، ولكن بقدر ما هي في حاجة إلى منطق ينزلها إلى أرض الواقع.. حتى تسود الطمأنينة قلوب الحريصين وتغشى أفئدة المشفقين معاً. ولعل فاتحة الكتاب السؤال الذي يقول: ترى ما الذي جعل المصالحة ممكنةً يومئذ وعصية يومذاك، لا سيما، وقد طُرحت مبادرات من قبل أصلب عودا وأشد مِراساً، علاوة على أن ما رشح حتى الآن لا يرى المراقب فيه أمراً جديداً؟ هل ستؤخذ جماهير حزب الأمة على حين غرَّة مرة ثانية، أم أنها ستأخذ بحقها من الشفافية والوضوح من معالجات الكواليس؟ وأرجو ألا يسمع المرؤ (موشحات) الظروف التي يمر بها الوطن، فمثل هذه الممارسات هي نفسها التي جعلت الوطن يرزخ تحت ويلات ليل بهيم. فهل كان هناك خِلافاً بالفعل؟ وإن كان هناك خِلافاً، هل هو خِلاف موضوعي أم مفتعل؟ كيف اتخذ بُعداً حزبياً وأسرياً في حين انحصرت مصالحته في الاطار الشخصي بين السيدين؟ ما مصير الذين غرر بهم مبارك وانشقوا عنه أيضاً؟ هل سيؤخذون بجريرته أم أن لديهم من الكبائر ما يحتاج لمصالحة تصِد الباب أو تفتحه في وجوههم؟ هل يمكن للمرء أن يتمرغ في نعيم السلطة ويقضي وطره منها ويعود ذارفاً دموع التماسيح، ثمَّ يقابل بالأحضان من دون أن يقدم نقداً ذاتياً تتصدع لأجله الجبال؟ بل هل يمكن أن تشمل المصالحة محاسبة السيد مبارك الفاضل نفسه على مشاركته سلطة نظام شمولي ديكتاتوري، لا سيما، وأنها تعد ضمن أسباب عديدة ساهمت في تطاول سنوات نظام يتكيء على سلطة مغتصبة؟ كيف تمت تسوية الخلاف؟ وهل هناك ضمانات مؤسسية تحول دون حدوثه مجدداً؟ وهل يمكن أن يُشرح للقواعد السبل الكفيلة بعدم اندلاعه ثانية؟ وإذا افترضنا أن القضايا الحزبية ستُعالج في إطار البيت الحزبي، ما مطلوبات القضايا القومية التي أصابها رذاذ الطرفين؟ ولأننا على يقين أن هذه الأسئلة ومثيلاتها لن تجد حظها من اجابة شافية، لذا إرتأينا إزاحة النقاب عنها بشفافية كاملة، تستحضر سؤال الجذور: كيف حدث ما حدث ولماذا حدث ما حدث؟
يمكن القول إن ما جرى عشية انقلاب الانقاذ كان يوضح حيثيات ترقد مسترخية تحت الجلد. وبمثل سائر الأشياء في هذا الكون، كانت تنتظر زماناً معيناً وتتوخى مكاناً مناسباً للخروج من الشرنقة. يومذاك أصبح حزب الأمة كياناً فاعلاً وركناً أساسياً في النشاط المعارض، والذي إلتأم شمله في إطار التجمع الوطني الديمقراطي. وعصرئذٍ كان السيد مبارك الفاضل قد هرب بعد الانقلاب واتجه صوب ليبيا أولاً ثم تنقل برشاقة الفراش بين العواصم المختلفة.. ساعياً مع آخرين لتنشيط العمل المعارض، والذي تراوحت محاولاته علواً وهبوطاً. ويجدر القول إنه بحكم ذلك الوضع الاستثنائي، اتخذ مبارك مُسمى مسؤول العمل الخارجي لحزب الأمة. وفي واقع الأمر كان الكثيرون يعلمون أن السيد مبارك أقبل على هذا العمل وهو مثقل بآثام ماضٍ بغيضٍ.. إغترفته يداه خلال الديمقراطية الثالثة، والتي تبوأ فيها عدة مناصب وزارية. فقد التصقت سيرته بممارسات فساد مالي.. حتى اضطر رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي إلى تكوين لجنة تقصي برئاسة قاضٍ للنظر في الاتهام. لكن تلك اللجنة لم تر أعمالها النور نسبة لأن الانقلاب الذي حدث في العام 1989 حال دون تكملة تحرياتها، سواء بتبرئة مبارك أو إدانته! وعليه كان مصيرها مثل مصير كثير من القضايا التي تسترخي في ذاكرة أهل السودان.. إذ توسدت الأضابير وإنزوت خلف الكواليس، غارقة في ثبا! وكان السيد مبارك قد زاد على خطاياه تلك، بالخروج عن توجهات حزبه في تلك الفترة، فمدَّ حبال الوصل مع الجبهة الاسلامية القومية، بصورة أشعلت نيران معارك كثيفة في الكواليس بينه وبين قيادات في الحزب منها السادة آدم موسى مادبو وبكري عديل والأمير عبد الرحمن نقد الله (عجل الله بشفائه) وآخرين، وكانت تلك الممارسات تتم بصورة سافرة حتى عرف السيد مبارك في دوائر التنظيم بأنه رجل الجبهة الاسلامية في حزب الأمة. وهي صفة عضدتها شكوك حامت حول مدى علمه بالانقلاب، وعززها أكثر هروبه بعد الانقلاب نفسه، وهو الهروب الذي تمَّ في ظروف كانت العصبة ذوي البأس تسائل فيها الذباب الهائم عن وجهته، ناهيك عن البشر!
استطاع مبارك بما لديه من مقدرات يعلمها المقربون تحسين تلك الصورة البغيضة، وذلك بانخراط مكثف في النشاط المعارض مستصحباً معه (استيكة) مشت الهوينا على تضاريس كل ما اشيع عنه. وعلى الضفة الأخرى كان النظام بممارساته قد برع في استعداء كل العالم الخارجي ضده، الأمر الذي أتاح للمعارضة حرية الحركة وتمددها بين العواصم. وهي عطية استثمرها مبارك وآخرون يحاذونه الهم بالهم، غير أنه تحديداً كان ذلك فتحاً مبيناً له في الأوساط السياسية والدبلوماسية. إذ كانت علاقاته موغلة في المحلية وخالي الوفاض من أي علاقات خارجية حتى عندما تسنم كرسي الوزارة. وكثيراً ما ذكر في بعض حواراته الصحفية من باب الاعتداد بتاريخ ليس فيه ما يستحق الذكر سوى إنه تشرف بحمل رسائل من السيد الشريف حسين الهندي إلى السيد الصادق المهدي بعد إنقلاب نميري وكان وقتها طالباً يافعاً في بيروت، وكأنه يؤكد بصورة غير مباشرة ما ذهبنا إليه في ضعف ذلك العامل الذي يحتاجه السياسي الحصيف. والمفارقة إنه يذكر أحياناً دوراً لازمه الغموض في الاشتراك في محاولة الحركة الوطنية التي غزت الخرطوم في العام 1976 لكنه لا يكمل الآية ويقول أن ذلك الدور لم يتعد شراء عربات معطوبة جثمت في مكانها وتمنعت عن نيل شرف المشاركة في العمل الوطني! لأجل كل هذا نعتقد أن الاحتكاك بالعالم الخارجي جاء آنذاك فمنحه أحساساً حالماً بزعامة موروثة، فبدأ يعد نفسه لثأر تاريخي عاني منه البيت المهدوي أصلاً في حقبة مضت، كان والده عليه رحمة الله طرفاً فيها. والسيد مبارك يؤمن دوماً بأن المال أصدق أنباءاً من الكتب، لهذا لا غروَّ أن اجتهد في جمعه من منابع لا تنضب أبداً، وصرف منه في سبيل ذلك الهدف صرف من لا يخشي الفقر. وكانت تلك هي بداية تأهبه لمعركة محتملة كانت وقائعها تدور في مخيلته (وتلك مرئيات اجتهدنا في توثيقها ضمن كتابنا الموسوم بسقوط الأقنعة) وذكرنا فيه تفصيلاً أن خروج السيد الصادق المهدي في ما اسماه بعملية تهتدون في العام 1997 كانت على عكس ما تظاهر به مبارك من فرح، إذ كانت كابوساً قطع عليه تسلسل آماله وأحلامه وإن عزَّ عليه الافصاح عنها. وهذا أمر لم يكن عصياً على من خبر دهاليز ومزالق تلك الفترة. لهذا كان من الطبيعي أن يجر السيد مبارك الحزب وزعيمه نحو تعاطى المكروه عمداً، وهو الانسلاخ من الكيان المعارض في مارس 2000 ومن ثم العودة بالحزب إلى داخل السودان في العام الذي يليه. حينها كان قد عزم على مشاركة النظام الشمولي الديكتاتوري موبقاته وآثامه وخطاياه. إذ ظن أنه لم يبق من درنه شيء، فالمال وقد جمعه، والماضي الكالح وقد مسحه، والطموح وقد أصبح في متناول يده!
استفاق السيد الصادق من وهم المشاركة التي كانت يذرها على سمعه مبارك، وقد اكتشف بنفسه بعد العودة صعوبة تحقيق تلك الغاية، واتضح له ذلك جلياً في أول اجتماع للمكتب القيادي في 16/2/2001 والذي قوامه نحو 77 عضواً. وبالرغم من أن مبارك نفسه أتضح له استحالة ما عزم عليه إلا أن طبيعة شخصيته التي ينعتها المعارضون سراً وجهراً ب (البلدوزر) كان لابد وأن يطأ كل من يقف في طريق تحقيق هدفه، ثمَّ أختار معركته المؤجلة في اطار زعامة الحزب وظنَّ أنه قد حان قطافها. إذ فوجيء المراقبون ذات صباح بحوار جرى ترتيبه بعناية فائقة في صحيفة اخبار اليوم 2/1/2002 تحدث فيه عن (أبدية الصادق في الرئاسة لأربعة عقود زمنية) وقال إنه (في الوقت الذي ظل يدعو فيه إلى اسقاط عامل الوراثة والنسب في الترقي داخل الحزب لم يطبق ذلك على أسرته) واضاف (إن مؤسسات الحزب جاءت بالتعيين وليس بالانتخاب) ثمَّ ختم بدعوته (فصل الامامة في كيان الانصار عن رئاسة الحزب) وقال إن (السيد أحمد المهدي أولى بالأولى) جاء رد فعل الصادق بإحالة المذكور لما سمي ب (لجنة الضبط والمحاسبة) التي اوصت بتجميد نشاطه لمدة عام. كان رد مبارك فورياً عبر الصحف أيضاً (الرأي العام 7/1/2002) فقال إن اللجنة (تحولت إلى أداة قمعية في يد رئيس الحزب لملاحقة مخالفيه في الرأي وأنها لا تستطيع مساءلته شخصياً) ومن جانبه ردَّ عليه الصادق (إن مبارك أخطأ ولابد من أن يراجع خطئه أولاً ويتبعه باعتذار واضح) ثم عدد له ما اسماه بعشر مخالفات أدناها العمالة، وكشف للمرة الأولى عن إنه (أعطى معلومات للأمريكان لضرب مصنع الشفاء للأدوية عام 1998) ومثلما يحدث في كل بقاع السودان تحرك الوسطاء غير الرسميين (الأجاويد) فاستجاب لهم الصادق، وضرب قرار اللجنة بعرض الحائط، فألغي عقوبة التجميد في 20/1/2002 بدون ما اسماه باعتذار، ومع ذلك ظلت الحرب مستعرة تدور على صفحات الصحف!
هنيهةً ومضى الأحباب كل في طريق، غادر مبارك الحزب مختصراً المشوار بزعامة حزب أسماه الاصلاح والتجديد، شارك به السلطة التي تكرمت عليه بمنصب شرفي، واصبح بموجبه مساعداً لرئيس الجمهورية، وقال إن معه (30 شاباً من كوادر الحزب المجاهدين يتولون مواقع دستورية في الدولة) بعد أن اقام لهم مؤتمراً في سوبا في يوليو 2002 الأمر الذي حدا بالسيد الصادق لإصدار (مرسوم) فصل بموجبه 23 كادراً من المكتب السياسي والقيادي على رأسهم مبارك. واستمرت الحرب سجالاً إلى أن أخرج مبارك آخر سهم في كنانته. إذ وجَّه رسالة مفتوحة للسيد الصادق عبر الصحف (الصحافة 5/5/2004) جاءت مثقلة بالاتهامات الشخصية والأسرية والحزبية والوطنية، بصورة لم تعرفها خصومة سياسية من قبل. على سبيل المثال قال له: (تحدثت في برنامج في الواجهة التلفزيوني عن خلافات أسرية إدعيت فيها زوراً وبهتاناً بأنني شكوت اخوتي وأوقفتهم بين يدي القضاء وأنت تعلم علم اليقين إن هذا ليس صحيحاً. واصاب رذاذك والدي السيد عبد الله الفاضل رغم محاولتك الاستدراك في آخر لحظة) ثمَّ تناولت المذكرة كثير من المسائل الاجرائية التنظيمية في الحزب وبخاصة التي تؤكد ديكتاتورية القيادة وعدم ديمقراطيتها ونفورها من المؤسسية، وهذه أشياء لا قبل لنا بها إلا بالقدر الذي يضع بصماته على صفحة القضية العامة، ومنها نفيه هذه التهمة عن نفسه ووضعها على جبين الصادق (فلنعد لموضوع استلام المال من الحكومة والمؤتمر الوطني لقد اعترفت زوجتك السيدة سارة الفاضل بأنك استلمت مليون دولار من الحكومة تعويضات عن عربات حزب الأمة، وقبل عودتك من منفاك الاختياري الأخير بالقاهرة في 2003 أرسلت إبنك عبد الرحمن إلى رئيس المؤتمر الوطني ليقول له إن أبي يقول لك أن بقائه في القاهرة ليس عودة إلى المنفى ولا هو مرتبط بموقف سياسي ولكنه بسبب العجز عن مواجهة الالتزامات المالية في السودان، وإنه يسألك العون حتى يعود إلى السودان، وقد استجاب رئيس المؤتمر الوطني وسدد فاتورة العودة)!
مضت المذكرة في طريق نبش الحرام الذي لا يقبل قضاءً ولا كفارةً (لقد كنت تفاوض النظام سراً في الخرطوم ولوزان وجنيف والمعارضة في اوجهها دون علمنا، ولما استجبنا للمصالحة والوفاق وفارقنا التجمع الوطني الديمقراطي، فإذا بك تختار طريقاً ثالثاً لا مع المعارضة ولا مع الحكومة) وقدم له نصحاً ينضح حكمة يفتقرها (أخي الصادق نصيحتي لك وأنت في العقد السابع من العمر أن تسعى لجمع الشمل، وأن تقنع بدور زعامي وأبوي، وان تبتعد عن صراع السلطة والركض وراء رئاسة الوزراء ورئاسة الدولة، فقد نلتها وأنت ابن الثلاثين، وأتتك تارة أخرى وأنت في الخمسين، فأنت لم تعد في حاجة إلى ألقاب ومواقع، ويمكنك أن توظف قدراتك وطاقتك الفكرية وشهرتك في عمل يفيد البلاد والعباد) ويبدو أنه فكَّر ثم قدَّر في خاتمة أرادها أن تذهب بريح المهدي من مسرح السياسة. إذ عرض الخطاب الذي ظل الناس يتجادلون حوله ردحاً من الزمن، وتداولوه كوثيقة تدين المهدي في مسؤوليته في الانقلاب الذي حدث في 30يونيو1989 لكن المهدي لم يعبأ بها كثيراً، ومع ذلك ظن مبارك أن عرضها على يده سيقطع بها قول كل خطيب، تلك هي وثيقة اللواء شرطة صلاح الدين النور مطر مدير إدارة الأمن الداخلي والمعنونة للسيد الصادق المهدي رئيس الوزراء، بصورة إلى وزيري الدفاع والمالية وكانت بتاريخ 26/6/1989 وفيها يتنبأ اللواء في تقريره بالانقلاب ويضع الاحتمالات التي إزدراها السيد المهدي بخط يده لأخيه (الحبيب) ولعله مبارك نفسه الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية آنذاك، إذ قال المهدي فيها: (متى يرقى الأمن الداخلي للاحاطة بالحقائق والتحليل الأشمل)!
أما نحن فنسأل الله أن نرقى لاكمال سفر (الأخوة الأعدقاء) الاسبوع المقبل بحوله تعالى!!
ينشر بالتزامن مع صحيفة (الأحداث) السودانية 8/3/2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.