٭ قد تكون حكومة السودان في حالة من الاسترخاء على عكس العواصم العربية التي تموج حراكاً مثل القاهرة ودمشق وصنعاء وتونس وعمان والمنامة، وذلك لأن الخرطوم هى غير تلك العواصم من خلال طبيعة شعبها وتاريخه الذي يقول إن السودان بلد مختلف وشعب مميز، وهو بهذه الصفات يعطي أية حكومة تكون في سلطته ميزات لا تتوفر لكثير من الحكومات المجاورة في الدول العربية والإفريقية، ذلك لأن الشعب السوداني يقرأ الأمور وتطورات الأحداث بشكل مختلف عن غيره من الشعوب الأخرى التي لاقت الهوان والذل والاضطهاد من حكامها خلال عقود من الزمان، وكان نتيجة ذلك ما يعرف الآن بالثورات العربية، حيث لم تعرف تلك الشعوب قيمة الحرية والعمل السياسي الحر الذي عاشه الشعب السوداني من خلال ثلاث ديمقراطيات (65 8591م) والثانية (46 9691م) والثالثة من (58 9891م)، هذا بالاضافة الى طبيعة العمل السياسي خلال الانظمة العسكرية الذي كانت فيه مساحة من التحرك جاءت نتيجة للفترات الثلاث التي عاش فيها الشعب السوداني حرية الممارسة السياسية كاملة، وكان لوقع (الديمقراطيات الثلاث) أثر كبير على مساحة الحريات في ظل الأنظمة العسكرية التي سادت بعد فترة (الديمقراطيات)، وبالتالي يعرف الإنقلابيون طبيعة السوداني في هذا الاتجاه، ومن هنا كانت إشارات رئيس الجمهورية المشير عمر البشير إلى ان الربيع العربي قد مر على السودان من قبل، وهو الآن يعيش في هذا الربيع، في اشارة الى حكم الانقاذ الوطني الممتد من (98 3102م) (قرابة 32 عاماً)، ومن بعده كان د. نافع علي نافع يتحدث عن ذات الربيع السوداني من منطلق حديث رئيس الجمهورية، معتمدين في ذلك على طبيعة الشعب السوداني في هذا الاتجاه الذي يقدر الأمور. وبذات الفهم تقول المعارضة إن الشعب السوداني شعب معلم، وهو الذي سبق الشعوب العربية كلها بثورتين أطاحت أنظمة عسكرية كانت راسخة في ذلك الوقت، وهى تشير الى ثورة أكتوبر 4691 التي أطاحت حكم الرئيس ابراهيم وثورة رجب/ أبريل 5891 التي أطاحت حكم الرئيس جعفر نميري (96 5891م). وتبدو حكومة الإنقاذ الوطني متفهمة لهذه النقطة جيداً، لذا حرصت على أن تضم حكوماتها في بداية ثورتها وجوهاً مختلفة تضمن لها القومية وتبيض بها وجهها، حتى لا تذهب التصنيفات بها الى اتجاهات أخرى، وكان من بين تلك الوجوه التي طرزت ( ثوب) الحكومة الدكتور حسين سليمان أبو صالح المحسوب على الحزب الاتحادي الديمقراطي ونائب دائرة شندي في انتخابات 6891م الذي عينته وزيراً للإسكان، وعينت القيادي في حزب الأمة الأستاذ عبد الله محمد أحمد وزيراً للثقافة والاعلام ثم سفيراً للسودان في ايطاليا، وكذلك الحقت اليساري والمايوي عبد الباسط سبدرات بوزارة التربية والتعليم، لكن هذه القومية التي بدت على الحكومة لم تكن ذات أثر كبير، لأن هذه القومية كانت مصنوعة ومبنية على حديث رئيس مجلس قيادة الثورة الفريق عمر البشير حول أن المشاركة تكون فردية للشخصيات وليست حزبية، وأن الحزبية ولت من غير رجعة، ولكن التطورات الداخلية والخارجية أجبرت الانقاذ على الاعتراف بالكيانات السياسية، لتكون الصورة أوضح وتتحول من المشاركة (الفردية) الى المشاركة (الحزبية). وبرز وقتها قانون (التوالي) الذي أجازه برلمان الترابي، وكان غامضاً ولم تستوعبه حتى التنظيمات السياسية المعنية به، وكان القصد منه أن تمارس التنظيمات السياسية عملها لكن بشرط أن (تتوالى) على مصلحة الوطن، وان كانت بعض التفسيرات تشير الى أن هذه المصلحة هى مصلحة (الانقاذ الوطني) التي تدير الأمور في البلاد من خلال تلك المؤسسات المتعلقة بتفسير وتنفيذ تلك القوانين. ولكن هذا الحراك البطيء الذي كانت تقوده الانقاذ في المجال السياسي وتتحول ببطء شديد من مرحلة الى مرحلة أخرى مثل المشاركة الفردية ثم الحزبية ثم قانون التوالي ثم مسجل التنظيمات السياسية، لم يصل في نهايته الى صورة مثلى للتبادل السلمي للسلطة او يرسي عملاً يقنع الاحزاب الكبرى بأن تكون ضمن المشاركين في هذا العمل السياسي الذي يقدم الأنموذج الامثل للشعب السوداني الذي تفوق على كل الشعوب العربية في هذا الجانب من الوعي السياسي الذي يتمتع به دون غيره من الشعوب. وكان المتوقع من قيادات الإنقاذ الوطني بعد ست أو سبع سنوات من الحكم المنفرد أن تنظر في إحداث تطور حقيقي ينقل التجربة السودانية في العمل السياسي الى مرحلة متقدمة على كثير من جيرانه في الوطن العربي وأفريقيا، ولكن كل هذا الجهد الذي بُذل يبدو في ظاهره عملاً متميزاً لتقنين العمل السياسي في البلاد، ويكون الحكم فيه ل (الصندوق) والتنافس الحر، وبدا هذا العمل هزيلاً في حالة التطبيق، وكأن هذه القوانين والتعديلات التي تجرى عليها ليست لمصلحة العمل السياسي في البلاد بشكل عام، ولكن لمصلحة النظام الذي يحكم، ولا أعتقد أن المؤتمر الوطني بهذا الحجم من القيادات العليا والوسيطة والصغيرة وبهذه الخبرة السياسية يخشى من المنافسة السياسية، والبلد لا تنفع معها سياسة (إطفاء الحرائق) تحاور قرنق ثم سلفا كير ثم خليل ابراهيم ثم عبد الواحد محمد نور ثم موسى محمد احمد في الشرق ثم مناوي ثم عقار والحلو ثم ياسر عرمان، وأخيراً وليس أخراً يوسف الكودة، وسياسة الإرضاء بالمنصب والمال ليست كافية وتدخل البلاد في دوامة لا تخرج منها أبداً، ودخل مشار ورفاقه عام 7991م في اتفاقية السلام وخرجوا منها، ودخل مناوي وخرج، ثم دخل عقار وخرج، والبلد أصبحت مشدودة الاطراف، وكل هذا العمل السياسي والعسكري يظهر سلباً على المواطن والشعب السوداني الذي قلنا عنه في بداية هذا المقال إنه شعب واعٍ ومتميز عن غيره، ولكن الحكومات التي تعاقبت عليه منذ الاستقلال لم تدرك قيمة هذا التميز الذي يتمتع به الشعب السوداني الذي هو صاحب القرار الاخير، والآن الفرصة مواتية أمام الحكومة والمعارضة وكلاهما يضم شخصيات ورموزاً يمكنها أن تتفق على أسس ومبادئ ينطلق منها العمل السياسي في السودان حتى لا تكون البلد في حالة (توهان) مثل التي تعتري بعض عواصم الربيع العربي، وفي نهاية الأمر فإن السودان بلد القيادات المعارضة كلها المدنية منها والمسلحة، وهو في ذات الوقت بلد كل القوى السياسية المشاركة مع المؤتمر الوطني في حكومة الوحدة الوطنية أو حكومة المشاركة العريضة، وهو بلد كل القوى المدنية الأخرى إن كانت من منظمات المجتمع المدني أو النقابات أو غيرها، والآن البلد أصبح على وشك الضياع، فالكفاءات أخذت تبحث عن مهن أخرى، وهناك زيادة في معدلات الهجرة، وهذا يعتبر فشلاً للنخبة الحاكمة في إيجاد استقرار سياسي واقتصادي، وفشل للمعارضة في إيجاد بدائل لعجز الحكومة.