لا أعتقد أن السودانيين ينسون أزمة الاتصالات التي كنا نعيشها في اواخر القرن الماضي، لا سيما المغتربين، ونتذكر الصفوف في الكبائن الخاصة بالتلفونات والساعات الطوال التي نمكثها فيها ولا فائدة، للاتصال بالاهل، وربما تكون هناك اغراض مهمة ولكنها تروح سدى مع ازمة الاتصال بالسودان، مع أن رعايا الدول الاخرى كالباكستان والبنغال والمصريين والهنود يتصلون بكل سهولة وسرعة، تاركين السودانيين حيارى مع تكرار الاتصال وبدون فائدة، وكذلك هنا في الخرطوم يذهب الشخص للثورة أو الكلاكلة أو الباقير أو أطراف الحاج يوسف لهدف محدد ولكنه لا يجده، وكان يمكن ان يوفر هذا الجهد والوقود والضنى النفسي اذا كان هناك اتصال عبر الأثير. أما الاتصال ببقية أقاليم السودان فحدث ولا حرج. وعلى العموم فإن العولمة في عالم الاتصالات في أخريات القرن المنصرم قد عمت الارجاء وتحقق الرجاء وعادت السعادة والهناء، فأصبح الاتصال في متناول يد السودانيين في كل مكان. وأذكر عندما جاءت «موباتل» التي أصبحت فيما بعد شركة «زين» للهاتف السيار، كنت من اوائل المشتركين رغم التكلفة المالية الكبيرة والضمانات المطلوبة، لأني كنت اقطن في منطقة لا توجد فيها تلفونات أرضية، مع بعدي عن اهلي في الاغتراب، فرأيت أن اترك لهم الهاتف لامكانية الاتصال بهم من وقت لآخر، ومن عجائب الأمر أنني كنت لا أحمله معي عندما اكون في السودان استحياءً وخجلاً مع انه mobile وهذه هي ميزته أن يكون محمولاً وصاحبه متحركاً، لأن الذين يحملونه في ذلك الوقت كانوا قلائل جداً، فقلت في نفسي ماذا يقول عني الناس؟! «ما هذه الفشخرة والفلهمة عامل فيها شنو شايل ليه موبايل»!! والحمد لله الآن الموبايل على قفا من يشيل. ومن الغرائب ان الرقم الذي احمله في الموبايل «09123» له أهميته التي كنت أجهلها الا قبل سنتين تقريباً في نيالا، فقد قال لي أحد الإخوة بأني كأني أحمل سبيكة ذهب احتياطي لأي ظرف مادي طارئ، فأكد لي ان الرقم «123» رقم مميز، وإذا اردت ان تتنازل عنه لأي شخص فيمكنه بكل سهولة ان يعطيك عدة آلاف من الجنيهات لتقضي بها حاجتك الطارئة اذا لزم الامر،وربما تكون هذه الأرقام هي التي بدأت بها موبيتل الاتصال، واذكر عندما كنت في الضعين عام 2010م، اتصل بي احد المسؤولين في شركة «زين» وقال لي بصفتك احد عملاء «زين» الاوائل فنريد منك ابداء ملاحظاتك ان وجدت، فشكرته وقلت له لا ملاحظة عندي غير أن توظيفكم للعاملين يحتاج الى توازن جهوي، لا سيما أن هناك جهات هي الأكثر استهلاكاً في «زين» ولكن وجود افرادها في الكاونتر قليل، فرد عليَّ المسؤول لكن بالداخل في المكاتب موجودون، وقلت له وفي الكاونتر ما لهُم؟! ورويداً رويداً أصبحت شركة «زين» بالاضافة الى جودة اتصالاتها اصبح هناك تواصلاً بينها والجمهور، فقد لاحظت ان هناك مشروعات تبنتها «زين» في الريف السوداني لامست صميم المشكلات التي يعيشها الريف، حتى ان دارفور اخذت جزءاً من نصيبها من المشروعات، خاصة ما يخص مشكلة العطش، وكنت شاهدا على كثير من المشروعات في هذا الخصوص. مناسبة هذا المقال هي احتفالات جائزة الراحل الطيب صالح للإبداع التي تبنتها شركة «زين» وتشرفت بدعوة السادة شركة «زين» كلما يحول الحول، وأول امس دعيت لهذا الاحتفال الذي سيعلن فيه اسماء الفائزين بالجائزة.. فقد كان برنامجاً مفيداً، فبالاضافة لإحيائه لسيرة الراحل العالمي الطيب صالح، فإن جديداً من الابداع الادبي سيرى النور، لا سيما أن الامر فيه تنافس بين متنافسين من كافة القارات ما عدا قارة واحدة ذكرها أمين مجلس الجائزة، فالناجح في هذه المسابقة قطعاً ستكون أعماله مميزة تستحق القراءة والاضطلاع اكثر من مرة، وفي الاحتفال ايضا فرصة للتلاقي مع اناس باعد بينهم الزمن، وأناس ربما تخلق معهم تواصلاً وصداقة تصل مرحلة الحميمية في المستقبل، ربما يقفون معك وقت المحن. ان ما قامت به «زين» شيء جميل يشبه شعارها، وفعلاً «زين» عالم جميل لأنه بالإمكان ان تصبح شركة اتصالات ناجحة في الاتصال، ولكن ان تنجح في التواصل فهذا لا يتأتى الا اذا كانت هناك ادارة حكيمة اجتماعية. ومن محاسن الصدف والفأل الحسن ومع أن «زين» ليست سودانية مائة في المائة، الا ان معظم ادارييها من السودان وعلى رأسهم الفريق الفاتح عروة، وهم الذين وفروا فرص التواصل مع الآخر عندما تلمسوا أحاسيس السودانيين في أن يعبروا عنهم في شخصية مثل شخصية الطيب صالح، فالطيب صالح وحده امة ابداع، ولولا أن الطيب صالح كان سودانياً لطبقت سمعته الآفاق اكثر مما نال الآن، فالسودان بخيل في دفع ابنائه الموهوبين الى الامام، ومعظم الذين ذاع صيتهم الابداعي من السودانيين كان ذلك بجهدهم الفردي وليس للدولة اي دور فيه، لقد شاهدت مقابلة مع السباق العالمي كاكي وكيف كان يعاني من ضيق ذات اليد والدولة لا تعينه! كذلك الطيب صالح ماذا قدمت له الدولة؟! حتى ان تعليمه الجامعي قطعه، ولولا خروجه واغترابه لظل معلماً معاشياً، اما ان يتكفف الناس أو يموت جوعاً ومرضاً ولكن بكرامة.وقليل من المعلمين من نجا من هذه المحن. ومن بُخِلنا حتى صناعاتنا المحلية التي وجدت القبول عالمياً نضِنُ على العالم من حولنا بها، ما رأيكم في الخُمرة السودانية وما رأيكم في الحُلومر وما رأيكم في الشربوت، ما رأيكم في الكمونية والبُوش، وغير ذلك كثير، ما يضيرنا اذا صنعناها بطريقة جيدة وقدمناها بوصفا عطاءً سودانياً؟! فما الفرق بين الابداع في صناعة الببسي والابداع في صناعة الحلومر (الآبري)، فالنتيجة هي مشروب يستفيد منه الانسان وترتاح له الابدان، وليس فيه اضرار جانبية، هذا إذا خففنا محدقات الحلومُر. وليست «زين» وحدها هي التي أبدعت في التواصل مع الآخرين، فإن هناك شركات الاتصالات الاخرى ايضاً لها دورها في التواصل مع الجمهور، ولكن «زين» بزت الآخرين في ملامسة أحاسيس السودانيين في التعبير نيابة عنهم عن شخصية مثل الطيب صالح الروائي العالمي. وعلمت في الاحتفال أن مؤسسة اخرى أعلنت جائزة البرعي للإبداع في المديح النبوي، واعتقد ان شركة «زين» سنت سنة حسنة في التقدير والتعريف وتكريم المبدعين السودانيين، ومن هنا أرى ان السودان الآن يعيش ازمة الادارة، فإن الذي نعيشه الآن أسه الاساسي هو الفقر الاداري، بعد مات الاداريون الذين ورثوا الخدمة الادارية البريطانية المحترمة في السودان، والاحياء ركلناهم وراء ظهورنا وعملنا بنظرية الولاء قبل الأداء، فوصلنا لهذه الحال، هناك قضايا نرجو مناقشتها كالفساد، وحتى لو كنا صادقين في محاربة الفاسدين فسيقف في طريقنا عدم وجود الإدارة الصحيحة في محاربتهم، وسيقف في طريقنا الفقر في الوصول الى الاداريين الحقيقيين، وباختصار فإن الإداريين ينقسمون إلى ضباط إداريين، ورجالات إدارة أهلية في السودان، هم كانوا منبع التظلم، في حالة فشل الادارة الأهلية في حل المشكلة وكذلك الضابط الاداري فإن الشرطة والقضاة هم المصب، ولكن عندما كان المنبع ضنيناً «إيجابياً» كانت مخافر الشرطة تشكو ندرة الأنيس والجليس، وكانت أروقة المحاكم ايضا تعج ب «الونسة» بين الاعضاء، ولا تعج بالشكاوى والاتهام والدفاع، ولا تسيل فيها الدموع والدماء. كل ذلك بسبب حكمة الضباط الاداريين ورجال الادارة الاهلية الذين يحلون معظم المشكلات بطريقة ودية لا تصل للشرطة ولا للقضائية، وحتى حوادث القتل يخفونها «إيجابياً» ولا تصل للقضاء، بل أجبروا بعض القضاة على أن يكونوا جزءاً من هذه الآلية الشعبية، وكان السودان مرتاحاً بفضل جهود الاداريين، فأرجو من الإخوة في «زين» ألا ينسوا امثال هؤلاء في ابداعاتهم والآخرين ايضا. وهناك صناديق حكومية وشبه حكومية يمكنها أن تقوم بمثل هذه الاعمال، ويجب ألا نترك مثل هذه الاحمال على قطاعات الشركات الخاصة، ولكن كما قلت في صدر المقال الأمر أمر إبداع وإلا لما فكرت «زين» في هذا المجال، ونتعشم في جائزة عطا المنان صالح النيل أو يحيى محمد الشيخ أو عثمان التوم الإدارية، أو جائزة أبو سن أو تاج الدين أو مادبو أو دوسة في فن الجودية. شكري الجزيل لشركة «زين» التي فتحت شهيتي للفت النظر والاهتمام بصناعاتنا وتقدير إداريي السودان الأوائل، وشكراً ل «أروقة» التي فكرت في جائزة البرعي للمديح النبوي، فقد حذت حذو «زين»، وزين ما فعلت «زين»، وأتمنى كل عمل زين من جهة أو شخص «زين». محمد عيسى عليو