الملاحظ أن العديد من المبدعين في شتى المجالات مارسوا العمل الصحفي، مشرفين على ملاحق وصفحات تهتم بصنوف الإبداع والأدب. بعضهم ترك العمل، وبعض آخر ما زال مواصلاً، ولكن ثمة تساؤل يطرأ حول الموضوع: هل امتهان المبدع للصحافة خصم أم إضافة للعملية الإبداعية؟ طرحنا هذا التساؤل على عدد من المبدعين الذين عملوا، أو يعملون حتى الآن في مجال الصحافة لمعرفة آرائهم حيال هذا الأمر، ونطالع في السطور التالية إفادات لبعض المبدعين، كتّاب قصة قصيرة ورواية وشعر: لكي تبدع لا بد من توفر شروط موضوعية تصاحب العملية الإبداعية - على الأقل في واحدة من مراحلها- وبدون تلك الشروط تكون العملية الإبداعية مختلة وفاقدة لروحها. وتلك الشروط هي عوامل زمانية ومكانية ونفسية، وهذا ما لا يتوفر غالباً في مجال الصحافة، فالصحافة تصادر من المبدع أهم عاملين (الزمني والنفسي) وبالتالي يكون المبدع الذي ولج عالم الصحافة قد فقد دعامتين أساسيتين تقوم عليهما العملية الإبداعية، وهذا يعني انزواء الذات المبدعة وبروز ذات اخرى تتقيد بمعايير المهنة وشروطها. وفي ظل واقع سياسي واقتصادي واجتماعي معقد، يتعاظم المُشكل، إذ أن مهنة الصحافة غير منفصلة عن ذلك الواقع الذي تتقاطع فيه مستويات من المفترض أن تكون واضحة وجلية حتى تسهل قراءة المشهد الذي على ضوئه تستقيم حياة الفرد سواء كان مبدعاً أم غير مبدع. فالمبدعون الذين يلجون المجال الصحفي جلهم لا يستطيع التوفيق بين مسئولياته تجاه الصحيفة التي يعمل بها، وما يمكن أن ينجزه في حقله الإبداعي. فالمبدع الصحفي يلهث طوال الأسبوع من اجل توفير مادته الصحفية، وبمرور الوقت تتقلص العملية الإبداعية لديه، وربما تهيمن على كتابته مفردات الصحافة - هذا للذين يمارسون الكتابة الإبداعية- فيفقد بالتالي مفرداته التي درج على استخدامها فيما ينتج من إبداع. وبما أننا في بلد عالمثالثي لم نستوعب بعد دور المبدع في المجتمع، وما زال الفرد المبدع في نظر البعض - حتى على مستوى أصحاب بعض الصحف - ما هو إلا إنسان (فاضي شغلة ساكت)، لذلك تجد أجورهم في بعض الصحف لا تسدد فاتورة المواصلات في الشهر ناهيك عن المتطلبات الأساسية الأخرى. بيد أن هذا الفرد في المجتمعات المتحضرة، هو كما النبي، صاحب رسالة في الحياة، توفر له كل سبل الراحة لكي يمارس إبداعه. وفي مجال الكتابة فإن الصحف هناك تدفع أجوراً باهظة للمبدعين مقابل كتاباتهم الإبداعية، وكذلك للمحررين الذين يشرفون على الصفحات التي تهتم بالجانب الإبداعي. أما هنا فيكفي أن أسرد حكاية صديقي المبدع الذي ولج عالم الصحافة وخرج منها وهو يردد» قال صحافة قال» قال الصديق: «فجأة وجدتني كما العبد الذي يعمل بنظام السخرة، ففي نوفمبر الماضي صدف أن واجهتني فواتير المياه، النفايات، البقالة، سيد اللبن، الغاز والكهرباء. هذه الفواتير أتت (حتة واحدة)، وبعملية حسابية بسيطة، وجدت أن ما أتقاضاه مقابل عملي في الصحيفة لا يسدد سوى فاتورتي اللبن والغاز. وبعملية حسابية اخرى اخضعت انتاجي الابداعي طيلة عملي بالصحافة، فوجدته شيئاً لا يذكر مقارنة بما قبل الولوج الى عالم الصحافة» وقال أيضاً: «تركتُ العمل وغير نادم على ذلك». الصديق المبدع ودّع الصحافة، وذهب إلى مكان الذهب. أ.عاصم الصويم: العمل الصحفي في المجال الثقافي يكون به تقارب ونوع من إثراء القاموس اللغوي نفسه بالنسبة للمبدع لكن في أغلب الأحيان التداخل مابين العمل الصحفي والعمل الإبداعي يكون به عملية سالبة بالنسبة للقاموس اللغوي للمبدع، لأن العمل الصحفي هو في أغلب الأحيان لايكون بشكل تخصص واحد، إذ يكون هنالك عدة تخصصات فمثلاً: الصحافة الثقافية يكون هنالك الرصد، الأخبار، الكتابة التقريرية، الأعمال الجاهزة سواء أكانت ترجمات أو قصص أو قصائد، عمل بالمسرح ، تشكيل أو غيره. فيكون التنوع موجوداً كذلك الإستفادة إذ يكون قريباً من مجاله، لكن المشكلة تكمن في أنك عندما تكون مبدعاً ولا تعمل بنفس مجالك الإبداعي مثلاً أن تكون كاتب قصة فتعمل في قسم التحقيقات أو الأخبار فهنا بمرور الزمن تُصبح العملية اليومية لمتابعتك هي عملية سالبة لجانبك الإبداعي، فإنك لو حاولت أن تكتب في مجال القصة فسوف تُلاقي صعوبة كبيرة جداً لأن الكتابة في بدايتها ستأتيك مثل الكتابة التقريرية أو الخبرية، لذا أنصح المبدع سواء كان في القصة أو الشعر أو غيره بأن يشتغل بالمجال القريب منه كالثقافي مثلاً هذا من جهة، أما الجهة الأخرى فإنك لو في الأصل متمكن وبارع، تتقن وتجود عملك التخصصي كالقصة مثلاً فإن هذه العملية لن تؤثر عليك كثيراً لأنك عندما تعمل بالصحافة فإنك تعمل كمحترف، أما الموهبة ومخزونك الإبداعي فلا يتأثر كثيراً لكن إرهاق العمل الصحفي هو الذي سيأخذ وقتاً كبيراً من تخصيص زمن الإنجاز الإبداعي الذي يجب أن تقوم به.وبالطبع إذا كان المبدع مبتدئاً فإنه بدون شك سيتأثر سلباً بالكتابة الصحفية وذلك لأنه في فترة لا أريد أن أُطلق عليها جنينية إنما فترة إستيعاب أي مدخلات لمعرفة جديدة، لذا فعندما تدخل عليه اللغة الصحفية فلأنها ستقوم بالتأثير على جانب تخصصه الأساسي الإبداعي. أ.أحمد أبو حازم: العمل الصحفي يأخذ من المبدع الكثير من حيث الزمن، فجل وقته يكون في حالة تحضير لمادة صحفية كما يشغل ذهنه شئ بعيد عن الإبداع مما يؤثر حتى على كتابته فتُصبح مسطحة أو تشبه المقال الصحفي. أما من جانب آخر فإنه يكون قريباً من مشهد الحراك الثقافي وهذا من الناحية الإيجابية ولكن النواحي السلبية كثيرة جداً. أ.حسن موسى: من الطبيعي أن يتحول المبدع لطَرق العمل الصحفي فليس هنالك كثير إختلاف، فأي حقل من هذه الحقول له مميزاته الفنية، وكتابة المبدع للقصة القصيرة وكذلك العمل الصحفي به سرد لكي يعيد صياغة الخبر ولكن بإختصار شديد هو سلاح ذو حدين فيه الخصم والإضافة، فالإضافة التي يُقدِّمها العمل الصحفي للمبدع هي زيادة الخبرة والخوض أكثر في جميع القضايا، سواء كانت سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية وغيرها. وهي من الآخر تمس المجتمع بإعتباره المُكوِّن الأساسي والجذر لفتوحات الكتابة القصصية وفي حالة لإقتناص لحظة للكتابة في هذه الحالة بالتأكيد تأتي بصورة جيدة وقوية، ومثال لذلك الكاتب الصحفي والقاص: اسحق أحمد فضل الله. أما الخصم فهوالإنقطاع الأمر الذي يطمس هوية المبدع أو التباعد بإعتبار ان العمل الصحفي يستنزف أغلب الوقت، ولكن مع ذلك فإن هنالك بعض المبدعين حالفهم الحظ في التوفيق بين العمل. أ.ياسر فائز: لقد نَمَتْ موهبتيَّ الصحافة والكتابة الإبداعية لديَّ بخطين متوازيين تقريباً لم يكن أحدهما يؤثر على الآخر إلا بشكل إيجابي.. لكن ذلك في السنتين الأوليتين فقط، بعدها صارت الصحافة تأخذ من زمن الكتابة، خصوصاً أن المعينات الكافية للصحفي السوداني مفقودة بما يتيح له إن كان مبدعاً أن يمنح (جزءاً) من وقته -على الأقل- للكتابة الإبداعية، كما إن الصحافة أوشكت أن تغير العادات النفسية حين التحاور مع الكتابة أو أن يفقد هذا الحوار نهائياً، وهو ما قد يؤثر على المنتج الإبداعي، ففي الإبداع أن تحاور الكتابة ولا تملي عليها شروطك لكن في الصحافة أن تأتي إليها بشروط الصحافة، وبشروط المجلس القومي للصحافة والمطبوعات، وبشروط رئاسة التحرير، وربما شروطك الخاصة أيضاً، وهذا أمر قاسٍ جداً خصوصاً حين يكون في الصفحات الثقافية، لكنني على المستوى الشخصي قد تسربت الكتابة إلى كياني وأستوطنت فيه دون رجعة - كما أتمنى- فرغم الإنهاك الذي أعود به أحياناً إلى المكتب،وأعود به دائماً إلى المنزل، أكتب، ليس لأني أبغي ذلك بل لأنني قد لا أستطيع أن أواصل عملي ولا أستطيع أن أنام إلا إذا كتبت، وبذلك صارت الكتابة هي من تمارس سلطتها عليَّ، وتجبرني على معاشرتها، لكن هذا لا يعني بأني أنتج نصوصاً بشكل مستمر بقدر ما يعني بأني لا أملك الزمن والجهد الكافي لإكمال نصوص قد تطير بلا أوبة فوحي كلمات الإبداع مثل قطرات الندى يتبخر سريعاً خاصةً تحت وطأة شمس لاهبة مثل شمس السودان!