كتب الأخ الأستاذ محمد عيسى عليو مقالاً رصيناً بالعنوان أعلاه في صحيفة الصحافة. وكعادته كان الأستاذ دقيقا في توصيف العلاقة بين دينكا ملوال وقبيلة الرزيقات. كيف لا وهو الدارس للتاريخ والمتخصص في ذات العلاقة وقبل هذا وذاك هو ابن بادية الرزيقات. تناول الاخ العلاقة تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا وانتهى بمناشدة حكومتي الخرطوم وجوبا لمراعاة حقوق مواطنيهما والنأي بهم عن الصراعات السياسية وطالبهما بتجاوز مرارات الماضي وعدم التعامل بردود الافعال. وأود أن استأذن الاخ عليو لأعقب على هذا الموضوع الحيوي والذي يمس كل بيت سوداني وقد تتعدى آثاره السودانيين الى الاقليم بأكمله. عاشت القبيلتان متجاورتين سنين عددا واستنت خلالها قوانين اجتماعية ومواثيق اقتصادية كانت صمام الامان للتعايش الانساني الكريم وتمثل في أرقى العلاقات بين بني البشر غض النظر عن التباين الثقافي وبعض التصرفات السالبة التي تغشى هذه العلاقة وتعكر صفوها. صحيح انه قد مرت فترات من التنازع والاحتراب بينهما الا ان ما يحسب لهاتين القبيلتين ان كل الصراعات التي وقعت بينهما لم تك دينية ولا إثنية ولا جهوية بل كانت تدور حول تقاسم الموارد الطبيعية الشحيحة من كلأ وماء وصيد. وما يمر وقت طويل حتى تعود المياه الى مجاريها وتتصالح القبيلتان إعمالاً للقوانين الاجتماعية التي فرضتها ظروف المعيشة والتعايش. بيد أن في ممارسة أنشطتهما بشكل طبيعي التصاهر، والصداقات التي تتطور لتصبح تحالفات وانصهار بين الافراد والجماعات بحيث يصعب على المشاهد ان يميز بينهما في الشكل الخارجي واللون في بعض الحالات، تبادلوا الهدايا والزيارات ودفعوا «الأرواك» لبعضهم البعض.. ولما كان كل أفراد الرزيقات مسلمين وتعود جذورهم الثقافية الى العروبة والاسلام وبالممارسة والتعامل الراقي والانساني انخرط افراد من قبيلة الدينكا في الاسلام واعتنقوه بمحض ارادتهم بل فضلت بعض الاسر الدينكاوية العريقة ان تلتئم في قبيلة الرزيقات وتذوب فيها وتنصهر في بطن من بطونها. ولا تخلو بادية الرزيقات من شخص ذي جذور دينكاوية. تم كل هذا طواعية وليس بحد السيف ولا الفهلوة. أصبحت الثقافة العربية تمارس في دار الدينكا ملوال بتلقائية لبسوا الجلاليب وزينوا رؤوسهم بالطواقي والعمائم وتزينت نساؤهم بالتوب والفستان والزائر لمدينة أويل اليوم يشاهد مظاهر هذه الثقافة. وأصبحت اللغة العربية هي لغة التفاهم بينهم، تعايشت هذه القبائل وهي رعوية تقاسمت المرعى وبرك صيد السمك وعمل شباب الدينكا عمالا زراعيين في دار الرزيقات وتجول الطموحون من أبناء الرزيقات في دار الدينكا يعرضون بضاعتهم التي جاءوا بها على ظهور الحمير والثيران. وفوق هذا وذاك كانت دار الدينكا ملاذاً آمناً للرزيقات عندما يشتد عليهم سلاطين الفور وتقسو عليهم حكومة الأتراك. ولما جاء الحكم الثنائي وبدأ في تمكين الإدارة الاهلية كجهاز يمارس الحكم غير المباشر على الأهالي ويخدم اهداف المستعمر بأقل تكلفة منح زعامات الادارة الاهلية سلطة تنظيم حياة القبائل واحتفظ الانجليز لأنفسهم بحق رعاية الاتفاقات القبلية وفق ما جاء في عادات وتقاليد القبائل المتجاورة وخاصة تلك التي تمتهن الرعي والزراعة وصيد الأسماك والحيوانات البرية. أوكلت لزعامات الادارة الاهلية مهمة عقد الاجتماعات الدورية في منطقة سفاها (سماحة) كما يسميها الرزيقات وكير الديم كما يسميها الدينكا. وفي واحدة من المؤتمرات القبلية المحضورة من زعامات الرزيقات بقيادة الناظر القوي ابراهيم موسى مادبو وكوكبة محترمة من معاونيه ومن جانب الدينكا حضر السلاطين دينق دينق أنجول الترجم وآخرين توصلوا الى رسم حدود لدار الرزيقات امتدت ل 41 ميل جنوب بحر العرب واعترفت قبيلة الدينكا بهذه الحدود كان ذلك في العام 4291م وقد أيد مفتشا مراكز البقارة في دارفور وشمال بحر الغزال في الجنوب هذا الاتفاق الذي كانوا شهوداً عليه ومن ثم باركه مديرو مديريتي دارفور وبحر الغزال ورعاه حاكم عموم السودان. ولما طلب مفتش مركز أويل بضغط من زعماء دينكا ملوال اعادة النظر في اتفاقية الحدود تلك (8391) ورفع الأمر الى الحاكم العام الذي رفض الطلب وعلق على أنه لا يرى اتفاقية أفضل من هذه وبقيت الحدود كما هي معروفة ومعترف بها من قبل دينكا ملوال قبل الرزيقات الى أن جاء السيد صلاح قوش رئيساً للجنة السياسية والامنية لمفاوضات ترسيم حدود دولة السودان ودولة جنوب السودان وفي غفلة منه أضيفت منطقة سفاها للمناطق المتنازع عليها وصارت قنبلة موقوتة قابلة للاشتعال في أي وقت وهددت أمن المنطقة وحرمت بادية الرزيقات من الوصول الى مراعيهم الصيفية المعتادة. كيف تسير البادية والمرحال مزروع ألغام؟! وكيف لا تعشم الحركة الشعبية في ضم المناطق الحدودية وقد غابت عنها حكومتنا منذ التوقيع على نيفاشا وتواجدت قوات الحركة الشعبية فيما بعد قوات دولة الجنوب بكامل عتادها وذهبت الحركة أكثر من ذلك وشيدت كبري يربط ضفتي بحر العرب وبنت شارعا ربط تلك المنطقة بعمق الجنوب، نبهنا حكومتنا الى خطورة هذا التصرف من قبل الحركة الشعبية ولكنها «سدت دي بطينة وتلك بعجينة». وما تعكر صفو العلاقة بين قبيلتي الرزيقات ودينكا ملوال الا عندما يتدخل طرف ثالث في هذه العلاقة ويعقدها أكثر وأكثر. الحركات المتمردة في جنوب السودان، حكومة الخرطوم وبعض منظمات الاغاثة ذات الأجندة الخفية. حركات التمرد جندت أبناء الدينكا واستقطبتهم ليحاربوا بجانبها واصبحوا مطية لمجلس الكنائس والمبشرين. زرعوا فيهم روح العداء لكل ما هو عربي ومسلم. حكومة الخرطوم (الانقاذ) دغدغت أحاسيس شباب الرزيقات الدينية وعزفت على وتر الغنائم خاصة وان كثيرا من اولئك كان عاطلاً متسكعاً في القرى والبوادي. كان للادارة الاهلية رأي مختلف ولكن النظام بامكانياته المادية والمالية تجاوز الادارة وشرع في التعامل المباشر مع اولئك الشباب مما جعل الادارة الاهلية تقف متفرجة على ما يدور وكان لهذا الموقف ما بعده. وأخيراً جاءت نيفاشا وفرح بها الشعب السوداني غير انها انقلبت وبالاً عليه بانفصال الجنوب قبل ترسيم الحدود وحسم أمر المناطق المتنازع عليها. والكل عاش مسلسل المفاوضات الممل ولقاءات القمة المتكررة والتي لم تصل لحلول ترضي الجميع بل اصبحت تفرخ ازمات متجددة. ويبدو ان المجتمع الدولي يريدنا هكذا حالة اللا حرب واللا سلم وقد كان هذا الدور موكولا لوكالات الاغاثة ابان فترة الحرب واليوم ما عاد المجتمع الدولي يتحرج من أن يقوم بهذا الدور سافراً ومرة متخفياً خلف أمنا الرؤوم افريقيا. كنت حاضراً في ورشة بناء ثقافة السلام التي نظمتها منظمة التماس للتنمية في الضعين حاضرة ولاية شرق دارفور في اوائل فبراير الجاري. وكانت ورشة محضورة بحق وحقيقة جمعت كل أطياف المجتمع في الولاية الوليدة. ولما كان الكلام عن السلام، تعرض المتحدثون الى العلاقة مع دينكا ملوال وتحدثوا مطولا عن الوضع الراهن ومهددات الامن هناك وخرجوا بتوصية جديدة قديمة وهي انعقاد مؤتمر للتعايش السلمي بين قبيلة الرزيقات ودينكا ملوال. وهو مطلب قديم قبل نيفاشا وتجدد بعدها واليوم يتجدد بعد انفصال الجنوب.