(3) ليس من همنا فى هذه القراءة تناول القضايا النظرية ، وفى مقدمتها مفهوم (الراوى) لأن كل قارئ لنص روائى يدرك هذا المفهوم على نحو من الأنحاء ، وبخاصة أن التراث العربى قد تعامل مع هذا المصطلح على مستويات متعددة ، إذ كان هناك رواة للشعر ، ورواة للحكايات الأسطورية والشعبية، ثم كانت وظيفة الراوى دينيا ، تلك التى حفظت لنا النصوص المقدسة . ومن المهم الإشارة إلى أن (الراوى) قد استحوذ على حقوق شرعية ، وفى مقدمتها : حق نقل النص من المؤلف إلى المتلقى ، كما استحوذ على حقوق غير شرعية ، منها تدخله فى تشكيل النص على نحو يناسبه ، ويوافق توجهاته الأيديولوجية والفلسفية والحضارية ، على معنى أن الراوى قد استحال إلى نسق ثقافى فى ذاته , وهذا التدخل , يمكن أن نتابعه في محاولة الراوي الداخلي في النص أن يعدل من الصورة الخاطئة التي ارتسمت في الأذهان عن الحضارة الغربية , فبعد عودة الراوي من أوربا كان التساؤل الذي يلاحقه عن أوربا : « هل الناس مثلنا أم يختلفون عنا ؟ هل المعيشة رخيصة أم غالية ؟ ماذا يفعل الناس في الشتاء ؟ يقولون إن النساء سافرات يرقصن علانية مع الرجال , وسألني ود الريس : هل صحيح أنهم لا يتزوجون , ولكن الرجل منهم يعيش مع المرأة بالحرام ؟ ... دهشوا حين قلت لهم : إن الأوربيين ? إذا استثنينا فوارق ضئيلة ?مثلنا تماما , يتزوجون ويربون أولادهم حسب التقاليد والأصول ,ولهم أخلاق حسنة , وهم ? عموما ? قوم طيبون « ( 1 ) ولم يستأثر الراوي الداخلي بالسرد , بل أتاح لغيره من الشخوص أن يشاركوا فيه , بخاصة عندما يتجه مسرودهم إلى كشف المغايرة بين حضارة الغرب وحضارة الشرق , وأن الشرق أخذ من حضارتهم الشكل , بينما ظل الجوهر على حاله , فعندما احتج الراوي الداخلى على إجبار حسنة على الزواج من ود الريس , أجابه صديقه محجوب بمقولة حاسمة : « أنت تعرف نظام الحياة هنا : المرأة للرجل , والرجل رجل حتى لو بلغ أرذل العمر « ( 2 ) ,ثم تابع قوله : الدنيا لم تتغير بالقدر الذي تظنه , تغيرت أشياء : طلمبات الماء بدل السواقي , محاريث من حديد بدل محاريث الخشب , أصبحنا نرسل بناتنا للمدارس , راديوهات , أتومبيلات , تعلمنا شرب الويسكي والبيرة , بدل العرقي والمريسة , لكن كل شيء كما كان « ( 3 ) إن تناول الراوى ونحن بصدد نص (موسم الهجرة إلى الشمال) يقودنا إلى مجموعة الركائز التى عرضنا لها ، إذ إن قراءة النص قد أوقفتنا على هذا (الراوى) وهو يحكى عن عودته من الغربة فى أوربا ، ومع توظيف ضمير المتكلم ، يوهمنا أنه يقدم نوعا من السيرة الذاتية ، لكن ما أن نقع فى هذه الخديعة الفنية حتى ينسل هذا الراوى من السرد الذى ينتمى إلى السيرة ، ليتركنا فى مواجهة سرد مقابل عن شخصية (مصطفى سعيد) الذى جاء حضوره إلى النص مغلفاً بنسق ثقافى مألوف لا يفارق الحياتى ، ثم فجأة يتمزق هذا الغلاف لتغادر الشخصية هذا الحياتى المعيش لتصعد إلى نسق أسطورى ظاهر حينا ، ومضمر حينا آخر ، ولا نقصد بالأسطورية هنا أن يحبك النص صراعا بين الشخوص الأرضية والقوى العليا الغائبة ، وإنما نقصد أسطورية المسلك الذي التزمته الشخصية عندما وجدت نفسها غارقة فى خضم صراع - أو بمعنى أدق ? صدام ثقافى ما إن تغادره حتى يلاحقها ، أو ترتد هى إليه. وقد أخذت الأسطورية سبيلها إلى النص مع عودة الراوى إلى قريته ، حيث يفاجأ بشخصية (مصطفى سعيد) مزروعة فى القرية ، والمفاجأة هنا كانت للجهل بهذه الشخصية ، وكأنها قادمة من المجهول لتحل فى بيئة لا تربطها بها علاقة من نوع ما ، إلا علاقة هذا الحضور الضبابى ، وخطورة هذا الحضور أنه استحال إلى نسق ثقافى (دخيل) فرض نفسه على ثقافة القرية ، وحاول أن يرسخ انتماءه إليها خلال امتزاج النسقين الثقافيين , أعني ثقافة القرية بكل تقاليدها الحياتية والسلوكية , وثقافة مصطفي سعيد بكل شحنتها الغربية , التي سعي إلى إخفائها تحت غلاف من التطبع بعالم القرية . واللافت أن قراءة النص قادتنا إلى مواجهة مزدوجة بين الظاهر والباطن ، فالظاهر يقدم لنا شخصيتين منفصلتين ، هما : (الراوى ومصطفى سعيد) أما الباطن ، فيجمع بين الشخصيتين فى كينونة واحدة ، أى أن الراوى هو مصطفى سعيد ، ومصطفى سعيد هو الراوى ، والذى أراه أن الشخصيتين قد خرجتا من حدودها النصية لتلتحما بالمبدع ، وهو منطق الأحداث الروائية ، ومنطق المسار الحياتى لهذا المبدع ، وإن كنت أتحفظ على هذا الملحظ الأخير ، لأن عقيدتى النقدية تفصل النص عن مبدعه تماما ، حتى لا أحمل هذا المبدع بتبعات النص وأوزاره. إذن نعود من هذا الربط الثلاثى : (المبدع ? الراوى ? مصطفى سعيد) إلى الثنائية التى تجمع بين (الراوى ومصطفى) حتى تبديا لنا كأنهما وجهان لعملة واحدة ، فكل منهما كان راويا ومرويا له على صعيد واحد ، وبينهما يتحرك السرد حركة محسوبة تقود إلى تكامل الشخصيتين على مستوى المسلك الحياتى ، وعلى مستوى الحكى الروائى ، ومن ثم فإن كل شخصية كانت تحاول استكمال الجانب الحكائى الذى أغفلته الشخصية الأخرى . ويبدو أن الراوي كان على وعي بهذا التوحد بينه وبين مصطفى سعيد , وأقواله في النص تشي بذلك , فبعد عودته من زيارته لبيت جده , يستعيد حديث مصطفى سعيد : « البلد ليس معلقا بين السماء والأرض , لكنه ثابت , والشجر شجر , والسماء صافية , ولكنها بعيدة « ( 4 ) ثم يسأل الراوي نفسه : « هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد ؟ قال إنه أكذوبة , فهل أنا أيضا أكذوبة ؟ « ويبدو أن مصطفي كان على وعي ? هو الآخر ? بتوحده مع الراوي , ومن ثم سعي لأن يستكمل الراوي مسيرته الحياتية بعد موته , ومن أجل ذلك جعله وصيا على زوجه وولديه , إذ يقول في الوصية : « إنني أترك زوجتي وولدي وكل مالي من متاع الدنيا في ذمتك وأنا أعلم أنك ستكون أمينا على كل شيء « ( 5 ) ويبدو أنه مع الوصية تتضح ظاهرة التوحد بين الشخصيتين , وأن المسئولية السردية تحتم على الراوي أن يستكمل مسيرة مصطفي الحياتية , إنْ بالتحقق الفعلي , أو التحقق بالقوة , فعندما عرض ( محجوب ) على صديقه الراوي أن يتزوج ( حسنة ) أرملة مصطفى, يتهمه الراوي بالجنون بسبب هذا العرض , لكنه عندما يعود إلى نفسه يحاورها بقوله : « إنني بشكل أو بآخر أحب حسنة بنت محمود أرملة مصطفى سعيد « ( 6 ) . بل يبدو أن بعض شخوص النص قد خامرهم إحساس ارتباط الشخصيتين على نحو من الأنحاء , إذ يذكر الراوي أنه عندما كان في الخرطوم , و في زيارة أحد زملاء دراسته في لندن , دار الحديث حول أول سوداني تزوج أوربية , وتردد اسم مصطفى سعيد , وفجأة يتجه الزميل بالسؤال إلى الراوي قائلا : هل أنت ابن مصطفى سعيد ؟ ( 7 ) وهو ما يعني أن التوحد بين الشخصيتين وصل إلى الهيئة الجسدية , وملامح الوجه . وهذا الموقف تكرر عندما نظمت وزارة المعارف مؤتمرا دعت إليه مندوبين من عشرين دولة إفريقية لمناقشة أساليب التعليم في القارة , وكان الراوي عضوا في سكرتارية المؤتمر , وإذا بأحد الوزراء المشاركين في المؤتمر , يواجهه بالقول : « أنت تذكرني بصديق عزيز كنت على صلة وثيقة به في لندن : الدكتور مصطفى سعيد «( 8 ) . وهذا التشابه الجسدي والروحي , لم يدركه الآخرون فحسب , بل إن الراوي نفسه كان يخامره هذا الإحساس , فعندما دخل غرفة مصطفى التي تحوي أسراره ومذكراته , كان الضوء ضعيفا , وهنا تدخلت مخيلة الراوي لاستحضار هذا التوحد بينه وبين مصطفى , يقول السرد على لسان الراوي : « وخرج من الظلام وجه عابس , زاما شفتيه , أعرفه , ولكنني لم أعد أذكره , وخطوت نحوه في حقد , إنه غريمي مصطفى سعيد ... ووجدتني أقف أمام نفسي وجها لوجه , هذا ليس مصطفى سعيد , إنها صورتي « ( 9 ) ويصل التلاحم بين الشخصيتين ذروته عندما يقودنا السرد إلى لحظة فارقة فى الأحداث ، هى لحظة (موت مصطفى غرقا) ، والذى نراه أن النصية تعمدت بناء هذه الواقعة على هذا النحو ، لكى تتيح للراوى أن يستكمل المسيرة الحياتية والموتية لمصطفى ، وقد مهد لذلك بتلك الوصية التى تركها مصطفى للراوى ، وبموجبها يكون هو المسئول الأوحد عن أسرته بعد موته ، وتكاد الوصية توحى للراوى بأن يتزوج (حسنة) أرملة مصطفى , وكأنه كان يدرك ? على نحو من الأنحاء ? أن الراوي يحب حسنة , وهو ما مسبق أن أوضحنا اعترافه بذلك .