كما سبق أن قلت فإن الفقهاء وهم يضعون الأصول للتقاضي لم يحددوا تدابير بعينها فى شكل مواد مبوبة كالتي تعرفها قوانين الإجراءات المعاصرة إلا أن اصول التقاضي أو المحاكمات لا تختلف كثيراً عن الإجراءات الجنائية المعاصرة من إعلان للخصوم والكفالة والوكالة والضمان والحبس وتحديد يوم لنظر الدعاوى وتخصيص القضاء نوعاً وزمانا ًومكاناً ، والملاحظ أن قضاء المظالم كانت له تدابير خاصة ويرجع ذلك لأنه عادة ما يكون أحد أطراف النزاع الخليفة أو واحداً من ولاته أو ذوى قرباه أو من شيعته أو من أولئك الذين يستمدون النفوذ منه. وظهر قضاء المظالم فيما قيل بعد الخلافة الراشدة وقال بعضهم أثناء الخلافة الراشدة ويرى البعض أنه لم تكن له حاجة إليه فى عهد النبوة ولا فى عهد الخلافة الراشدة وهؤلاء مع من قال بأن قضاء المظالم جاء بعد فترة الخلافة الراشدة ويرى الماوردى في كتابه " الأحكام السلطانية" بأن ظهور قضاء المظالم وجد في خلافة سيدنا علي بن أبي طالب ويخالفه ذلك ابن الفراء وعموماً هناك اتفاق بين المؤرخين بأن قضاء المظالم ظهر بصورة واضحة بعد الخلافة الراشدة بينما اتسعت رقعة المملكة الإسلامية وكثر عمالها وبعدوا عن رقابة قاعدة الخلافة وردت الأرزاق وانحرف بعض الخلفاء ونشأت طبقة من أصحاب النفوذ سواء كانوا أقرباء الخليفة أو من المقربين إليه أو عمال الدولة أو ممن استمدوا سلطانهم بالزلفى وكان طبيعياً حينما وقع هذا كله أن يقع حيف على بعض المواطنين وأن يبغى بعض هؤلاء على الناس فيسلبوهم حقوقهم أو يمنعوهم منها . ويقول بديع الزمان الهمزانى:" كان عدوان الدولة بصورة عامة على الأفراد السبب الأصلى في إنشاء ديوان المظالم" «34» . تدابير المحاكمة لدى ديوان المظالم: إن الأسباب التي أوجبت قضاء المظالم هي التي أوجبت أن يوضع لتدابيره طريق خاص يختلف عن القواعد التي يلتزم بها القضاة ولا يحيدون عنها. (ويرجع ذلك لإن قاضي المظالم أو والي المظالم ينظر في قضايا تعود نتائجها على الدولة والمجتمع لا على أفراد معينين وبهذا يقول الفقهاء إن نظر المظالم يخرج من ضيق الوجوب الى سعة الجواز)«35» . ومن القواعد الظاهرة إطلاق يد قاضي المظالم في التحقيق عن الظلم دون التقييد بالتدابير المتبعة في عموم الدعاوى من سماع للخصوم والرد والتعقيب والبينة وقد حدد ابن الفراء فى كتابه " الأحكام السلطانية" هذه التدابير خاصة بعشرة أوجه وهى لا تختلف كثيراً عما ذكره الماوردي في كتابه " الأحكام السلطانية" وذكر ابن الفراء أن الفرق بين إجراءات المحاكمة عند نظر المظالم تختلف عن نظر القضاء في عشرة أوجه هي:- إحداهما:أن لناظر المظالم من فضل الهيبة ، وقوة اليد ما ليس للقضاء في كشف الخصوم عن التجاحد ومنع الظلمة عن التغالب والتجاذب. الثاني: أنه نظر المظالم يخرج من ضيق الوجوب إلى سعة الجوار فيكون الناظر فيه أفسح مجالاً وأوسع مقالاً. الثالث: أنه يستعمل في فضل الإرهاب ، وكشف الأسباب بالأمارات الدالة ، وشواهد الأحوال اللائحة ما يضيف على الحكام ، فيصل به إلى ظهور الحق ومعرفة المبطل عن المحق. الرابع: أنه يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب ، ويأخذ من باب عداواته بالتقويم والتهذيب. الخامس:أنه له من التأني في ترداد الخصوم عند اشتباه أمورهم ، ليمعن في الكشف عن أسبابهم وأحوالهم : ما ليس للحكام إذا سألهم أحد الخصمين فصل الحكم، فلا يسوغ أن يؤخره الحاكم ويسوغ أن يؤخره وإلى المظالم. السادس: أنه له رد الخصوم إذا أعضلوا إلى وساطة الأمناء ليفصلوا التنازع بينهم صلحاً عن تراضٍ ، وليس للقاضي ذلك إلا عن رضى الخصمين بالرد. السابع:أنه يفسح في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات التجاحد ، ويأذن في إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب. الثامن: أنه يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة في شهادة المعدلين. التاسع: أنه يجوز له إحلاف الشهود عند إرتيابه بهم إذا بدلوا إيمانهم طوعاً ، ويستكثر من عددهم ليؤول عنه الشك ، وينتفي عنه الإرتياب وليس كذلك الحكام. العاشر:أنه يجوز أن يبتدىء بإستدعاء الشهود ويسألهم عما عندهم في تنازع الخصوم وعادة الحكام والقضاة : تكليف المدعي إحضار بينة ولا يسمعونها إلا بعد مساءلته.«36» على ضوء هذه المبادىء العشرة نجد أن هناك تدابير محددة لولاية المظالم منها تدابير مؤقتة وتدابير تتعلق بالكفالة وكذلك الحجز الإحتياطي والحجز على العقار والحارس القضائي، وكل هذا من أجل حكم عادل وأن هذه المبادىء العشرة تتضمن مقادير بها قدر من الشدة والصرامة حتى لا يضيع حق الضعفاء من قبل الآقوياء ولاة أو غيرهم كما سبق القول فواضح من هذه المبادىء أن الشريعة الإسلامية تطبق مبدأ المساواة إلى أوسع مدى يتصوره العقل البشري ولهذا لا تفرق نصوصها بين الرؤساء والمرؤسين ولا بين الملوك والسوقة ولا بين ممثلى الدولة السياسيين والرعايا العاديين ولا بين ممثلي الشعب وأفراده ولا بين الأغنياء والفقراء ولا بين الظاهرين والخاملين. وبنظرة موضوعية لما سقناه نجد أنه لا يوجد في الفقه الإسلامى أي تمييز لأحد في إتخاذ التدابير اللازمة للمحاكمة لأنه أصلاً لا توجد محاكم خاصة فالمحاكم واحدة وللناس جميعاً حاكماً أو محكوماً إماماً كان أو خليفة فلا استثناء لأحد من العقاب ولا استثناء لأحد من الحضور لمجلس الحكم ولا استثناء في الإجراءات اللازمة أو التدابير اللازمة في المحاكمة.«37» (جاءت الشريعة الإسلامية من يوم نزولها بنظرية المساواة التامة فقررت المساواة على إطلاقها ، فلا قيود ولا استثناءات وإنما مساواة تامة بين الأفراد ومساواة تامة بين الجماعات، مساواة تامة بين الأجناس ومساواة تامة بين الحاكمين والمحكومين، مساواة تامة بين الرؤساء والمرؤسين . لا فضل لرجل على رجل ولا لأبيض على أسود ولا لعربى على رجل أعجمي، وذلك لقول الله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) صدق الله العظيم " الحجرات 13" وذلك ما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله (الناس سواسية كأسنان المشط الواحد ، لا فضل لعربى على عجمي إلا بالتقوى ان الله قد أذهب بالاسلام نخوة الجاهلية وتفاخرهم بآبائهم لأن الناس من آدم ، وآدم من تراب وأكرمهم عند الله اتقاهم)«38» وفي رأينا أن قانون الإجراءات الجنائية السوداني لعام 1991م يعتبر أساساً طيباً في وضع تدابير جنائية في شكل معاصر مفصل في مواد مقننة بعد إزالة بعض المواد المخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية والاختصاصات والسلطات الممنوحة للنيابة العامة حصانة رأس الدولة في الفقه الإسلامى: هناك عدة ألقاب تطلق على رأس الدولة الإسلامية وأشهرها على الأطلاق لقب " الخليفة" و"الإمام و "أمير المؤمنين". لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم لقب بصفته رئيساً للدولة الإسلامية سوى أنه نبى ورسول ، وبعد وفاته أصبح أبوبكر الصديق رئيساً للدولة الإسلامية حيث قيل له : " يا خليفة الله" فقال : لست خليفة الله ولكن خليفة رسول الله.«30» وكانت هذه بداية لقب الخليفة ، ثم جاء عمر بن الخطاب كثانى رئيس للدولة الإسلامية وهو أول من سمى أمير المؤمنين .«31» لأنه لما ولَى عمر قيل له يا خليفة خليفة رسول الله ، فقال عمر رضى الله عنه: هذا أمر يطول كلما جاء خليفة قالوا يا خليفة خليفة رسول الله .«32» ويقال ان سيدنا عمر رضى الله عنه قال: بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم" «33» ومن هنا جاء لقب أمير المؤمنين ويرى ابن خلدون فى مقدمته أن الشيعة هم أول من قال بلقب الإمام لأنهم خصوا سيدنا علي رضى الله عنه باسم الامام نعتاً له بالإمامة التى هى أخت الخلافة .«34» * وظيفة رأس الدولة: يقول الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية : إن الإمامة موضوع لخلافة النبوة في رعاية الدين وسياسة الدنيا. ويرى ابن خلدون بطريقة أخرى ان وظيفة رأس الدولة الإسلامية هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية ، والدنيوية أذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى إعتبارها مصالح الآخرة . فهي أى الخلافة " في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا"«35» . من هنا يتضح أن مهام رأس الدولة فى الدولة الإسلامية خليفة كان أو أميراً للمؤمنين أو إماماً هي العمل على تطبيق أحكام الشرع على جميع الرعية والسعي في تحقيق مصالحهم وتقع من مهامه جمع الزكاة وتوزيعها وإقامة الحدود وحمل الدعوة الإسلامية خارج حدود الدولة إلى العالم كافة ورعاية شؤون الناس من كل النواحى. مراجع: «34» مصطفى البارودى : الوجيز في الحقوق الإدارية ، الطبعة السابعة 1958 ، مطبعة دار النهضة ، ص 58. «35» أبى الحسن الماوردي: الأحكام السلطانية ، مطبعة البانى الحلبى ÷ القاهرة ، الطبعة الأولى 1960م ، ص 83 «36» القاضى ابن يعلى محمد بن الحسن القراء الحنبلى المتوفى 459 الأحكام السلطانية صححه وعلق عليه المرحوم محمد حامد القبض من مجموعى الأزهر الشريف جماعة أنصار السنة المحمدية ، دار الكتب العلمية بيروت ، طبعه 1983م ن ص 79. «37» الأستاذ عبدالقادر عودة : التشريع الجنائى الإسلامى ، مرجع سابق ص 317. «38» الأستاذ عبدالقادر عودة: الشريع الجنائى الإسلامى ، المرجع السابق ، ص 16. «30» الفراء : الأحكام السلطانية مرجع سابق ، ص 27 عبدالرحمن بن محمد بن خلدون : مقدمه ابن خلدون ، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات ، ص 19. «31» السيوطى: تاريخ الخلفاء ، ص 136 «32» الماوردى: الأحكام السلطانية ، ص 15 مرجع سابق «33» مقدمة ابن خلدون ، مرجع سابق ، ص 587. «34» تاريخ الطبرى ، ص 277 الأحكام السلطانية : الماوردى ، ص 23 «35» مقدمةإبن خلدون ، مرجع سابق ، ص 191