*لم تعد كرة القدم فى السودان وتحديدا فى ولاية الخرطوم هى تلك اللعبة الجاذبة والشيقة والممتعة والمرغوبة والتى تخطف الاعجاب وتحظى بالاهتمام أو الجديرة بالمتابعة فقد أصبحت طاردة وماسخة وتلاشى الحب الذى كان يجمع بينها وغالبية أنصارها - فقد هجرها الكثيرون الذين كانوا يعتقدون فيها ويجدون فى ميادينها الترويح والمتنفس و المتعة والرفاهية والمعرفة والمزيد من العلاقات - لم يعد لها بريق ولا حتى قيمة - مات حماس الجمهور تجاهها وأضحت مدرجات الاستادات بائرة خالية « يعشعش فيها الطير ويكاد يبنى فيها البوم « طائر الشؤم بيوته » - فقدت طعمها ولم يعد لها مذاق ولا لون أو رائحة. *لقد كانت كرة القدم فى الخرطوم والى وقت قريب مدرسة عامرة تدرس علوم صدق التعامل والأدب وتخرج المواهب الادارية وتصنع المبدعين من اللاعبين وكانت حياة كاملة وجميلة ومتفردة تقوم على العشرة وصدق النوايا والمعرفة - كان مجتمعها متميزا ومتفردا عن بقية المجتمعات الأخرى بتماسكه وترابطه وتلاحمه - كان التنافس وقتها شريفا والأخلاق عالية وكانت الأندية محل فخر المنتمين لها - « حليل أيام زمان وحليل تلك الأيام التى كانت فيها الكورة حياة وملجأ ومكانا للقيا و برنامجا استثنائيا رائعا يذخر بكل ما هو جميل ». *كان استاد الخرطوم ليس مجرد مكان للعب فقط بل كان منتدى وملتقى يتعانق فيه رجالات ورموز كرة القدم فى الخرطوم حيث كانت الصداقة البريئة هى الأساس وكان لكل نادي عنوانان ووجوه ثابتة ورجال دواخلهم نظيفة ومؤصلين وكانوا «أولاد خرطوم فعلا » فى سلوكهم وأخلاقهم وفهمهم الحضارى ورقيهم وأدبهم وتهذيبهم وثقافتهم » - كنا نحرص على الحضور ليس لمشاهدة المباراة بل لنلتقى بالعمالقة ونجلس مع علماء هذه اللعبة وكنا نشكل مجموعة واحدة وشلة « أولاد ورجال نادى وادى النيل اللواء أمان والراحل المقيم « خليل نسأل الله له الرحمة والمغفرة » وبابكر مصطفى أحد أكبر الكورنجية وحبرتجية اللعبة والادارة - عثمان يوسف ووزيرى ونوبة - كان ودمختار يمثل البرنس وحاج ميرغنى فى القوز وعلى يوسف وأبوالقاسم فى برى - الريس عبدالواحد والمصرفى عوض الله عمر وفقيرى ونقيش وعلاء وسيف كارلوس فى الامتداد وكان الريس يحى مرسى اللواء سمير مصطفى والراحل صلاح حمدالله وطه محمد صالح فى النيل - كانت توتى حضورا وكانت أى مباراة لها « حرابة - كما كان يقول الأخ المدرب اسماعيل عطا المنان - كان أولاد العلمين الريس خليفة وأحمد فضيل وحاج عبيد وكان عصام يمثل التعايشة - كان المقرن موجودا عبر أولاد حسين وزقزوق وكان الراحل حسن البصرى يرحمه الله ومجدى محجوب وعمر شقاق وخالد دسوقى يحملون النسر فى عيونهم وقلوبهم وأكتافهم - كانت الزومة متألقة عبر عناوينها أولاد طه « عوض وطه وجلال » والنقيب وقتها والعميد الأن فيصل - مدير شرطة محلية أم درمان - كان أولاد جلاس والصحافة وخنادقة الحماداب واللاماب وأولاد الرميلة » - كانت لنا أيام لا تنسى وهى من الثوابت والقواعد محفورة فى العقل وتسكن فى القلوب - الأن الوضع اختلف كثيرا عما كان عليه فلم تعد هناك معرفة أو حرص عليها ضعفت محبة القلوب - مات الحماس واندثرت قواعد المعرفة وأصبحت المصالح هى سيدة الموقف - الزمن نفسه تبدل وبات « ممحوقا » والرغبة ضعفت وهذا ما أدى الى تغيير كافة أوجه الحياة وملامح جمالياتها - لقد كان التنافس القوى والشريف هو المبدأ ولا ننسى « التحالفات البريئة والديون موجودة - تدينى وأديك حسب الزنقة والحاجة تحسبا للهبوط أو طمعا فى الوصول للسنترليق» - كانوا فى الملعب أندادا وفى المدرجات والمقصورة أحبابا تبدأ المباراة وتنتهى ويأتى الانفعال على قدر نتيجتها ولكن الكل ملتزم بالأدب والأخلاق - ولم نشهد يوما أن تعدى ادارى على اخر أو خرجت كلمة بذيئة من أى شخص. *اننا ننعى ونبكى كرة القدم فى ولاية الخرطوم ونرى أنها تسير فى الطريق الذى يقود للانقراض وحتما ستموت هذا ان لم تكن قد ماتت فعليا - فقد أصبحت « قبيحة وأصابتها الأمراض الفتاكة وتحولت من لعبة شيقة وممتعة الى مجال للتنافر والسباب والشتائم والاساءات والاتهامات وباتت محل متاجرة وكسب عيش - فقد اقتحم دنياها بعض « الهمج » وعملوا فيها « مالايستطيع النجار فعله فى الخشب » وحولوا ميادينها الخضراء ومدرجاتها النظيفة الى صحراء قاحلة ومناقد ملتهبة وهذا ما أدى الى فرار «أهلها الأصليون » - لم تعد المباريات محل اهتمام أى شخص ولم تعد هناك رغبة أو حماس و حتى الانتماء اليها ضعف وتلاشى . *وان أردنا التأكد من فقدان كرة القدم فى ولاية الخرطوم لقيمتها ووضعها فعلينا أن نعيد قراءة أرقام الدخول التى تحققها مباريات الفريقين الكبيرين - فقبل سنوات كان دخل أى مباراة يكون طرفها المريخ أو الهلال لا يقل عن المئة مليون وكان التنافس موجودا بين الفريقين حتى فى أرقام الدخول أما اليوم فقد تغيرت الأوضاع وانقلبت رأسا على عقب - من كان يصدق أن تجرى مباراة فى أم درمان ويكون طرفها المريخ أو الهلال وتحقق دخلا لا يتجاوز الخمسة آلاف جنية انها الحقيقة المشفوعة بالأرقام « راجعوا دخل مباراتى المريخ أمام الأمل والموردة ومواجهتى الهلال أمام الأهلى الخرطوم وهلال كادقلى والأهلى مدنى » - كان عدد الجمهور الذى يشهد أى مباراة للمريخ أو الهلال لا يقل عن العشرين ألف متفرج وفى بعض المواجهات وصل عدد الحضور خمسة وأربعين ألف مشجع من داخل الاستاد واليوم بات عدد الذين يحرصون على المشاهدة لا يتعدى الألف شخص - لم يقل الدخل أو يعزف الجمهور فقط بل امتد الأثر حتى لدواخل المشجعين حيث ضعف حماسهم وأصبح فوز المريخ أو الهلال لا يعنى شيئا ولا طعم له والهزيمة أو التعادل أمر عادى جدا على عكس ما كان فى السابق فقد كانت خسارة المريخ أو الهلال تشكل حدثا كبيرا و كانت الاحتمال الأبعد والنادر وان حدثت فان المهزوم « يرفض العشاء ويتأثر نفسيا وربما يغيب عن العمل فى اليوم التالى » - لم يعد هناك حرص على الذهاب للاستادات والوقوف فى الصفوف الطويلة فالرغبة ضعفت والحماس قل وتلاشى . *حليل أيام زمان - أيام كان الأصدقاء « يتواعدون فى النادى » وكان الكبير كبيرا والصغير صغيرا وقتها لم تكن الكتوف متلاحقة كما هى الأن ولا أحد يتطاول أو « يقل أدبو » حتى الاحترام والوقار لم يعد موجودا - لقد فسد الذوق العام وانهار جدار الاحترام واتلاشت الحدود واختلط الحابل بالنابل فالصغار أصبحوا - بقدرة قادر كبارا - ولم يجد الكبار سوى أن يفسحوا المجال ويتركوا لهم - الجمل بما حمل - وما نتوقعه أنه ومع كل يوم جديد أن تفقد كرة القدم أحد رموزها ومحبيها وان استمر الوضع على ما هو عليه الأن فان الناتج سيكون كارثة . *بالطبع هناك أسباب جعلت عشاق كرة القدم فى السودان يقاطعونها - وسنعود لهذه الأسباب لا حقا .