النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    مفهوم الصفوة: إننا نتعثر حين نرى    تشاد تتمادى في عدوانها على السودان    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    لم تتحمل قحط البقاء كثيرا بعيدا من حضن العساكر    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    الخارجيةترد على انكار وزير خارجية تشاد دعم بلاده للمليشيا الارهابية    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    كباشي والحلو يتفقان على إيصال المساعدات لمستحقيها بشكل فوري وتوقيع وثيقة    المسؤولون الإسرائيليون يدرسون تقاسم السلطة مع دول عربية في غزة بعد الحرب    الحرس الثوري الإيراني "يخترق" خط الاستواء    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    هيفاء وهبي تثير الجدل بسبب إطلالتها الجريئة في حفل البحرين    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زيارتنا إلى صندوق النقد الدولي.. الديون يا سادة
نشر في الصحافة يوم 13 - 05 - 2013

د. صديق أمبدة: العنوان أعلاه مألوف للجيل الوسيط الذي درس في المرحلة الابتدائية «تعليم الأساس حالياً» «سُبل كسب العيش فى السودان» بزيارات الى مناطق السودان المختلفة «صديق عبد الرحيم في القولد، احمد القرشي في ريرة، ومحمد ود فضل في بابنوسة الخ»، ثم انتقل الى زيارات «فى الخيال» الى بقاع مختلفة من العالم «احمد في مصر، قريتشين فى سويسرا، سانشو في الارجنتين، رشك فى الهند وهنرى فى الولايات المتحدة ..الخ». لكن هذه المرة الزيارة مختلفة، اذ تمت دعوتي وزميلي الدكتور أبو بكر حسين مدير معهد الدراسات الإنمائية بجامعة الخرطوم ضمن آخرين من بقاع العالم المختلفة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لحضور اجتماعات الربيع للمؤسستين فى واشنطن فى الفترة 13 21 ابريل2013م، وكانت الدعوة فى إطار منتدى منظمات المجتمع المدني الذي يعقد سنوياً متزامناً مع الاجتماعات الرسمية فى هذه الفترة. وقد حضر اجتماعات هذا العام نحو «700» من ممثلي هذه المنظمات، حضروا من «100» دولة على حساب منظماتهم، بالإضافة إلى «31» من الدول النامية تمت دعوتهم بواسطة الصندوق والبنك. وجدير بالذكر ان هذه هي السنة العاشرة لهذا المنتدى، وقد درجت المؤسستان على دعوة نحو «30» شخصا كل عام، وقد وصلنا الدور فيما يبدو.
ولا يفوت على المتابع ان السياسات الاقتصادية المصاحبة لقروض كل من الصندوق والبنك، قد وجدت « ومازالت» معارضة شديدة من جماهير عريضة فى كل بقاع العالم، وقد تم التعبير عن ذلك بطرق شتى بما فى ذلك المظاهرات بشعاراتها المعادية وربما أشهرها «لن يحكمنا البنك الدولى». كذلك فقد صاحبت اجتماعات سابقة للمؤسستين مظاهرات من من الخضر «أصدقاء البيئة» ومن جماعات أخرى ضد العولمة ونتائجها على الدول الفقيرة.. الخ. والمعتقد انه وفى ظل هذه الأجواء المعادية كان لا بد للصندوق والبنك من ان يخلقا نوعاً من التواصل مع منظمات المجتمع المدني، خاصة أن هذه المنظمات قد أصبح لها صوت مسموع ومؤثر على سياسات الدول الكبرى المالكة للجزء الأكبر من رساميل المؤسستين ومواردهما المالية الأخرى، كما أن لمثيلاتها فى الدول النامية أيضاً وزنها الذي لا يستهان به ومقدرتها على استقطاب الجماهير فى الوقوف ضد الإجراءات الاقتصادية التى تؤثر سلباً على دخول ومعيشة الفقراء مثل رفع الدعم عن السلع الضرورية وتحويل تكاليف الخدمات الى المستهلكين وتجميد الزيادات في الأجور وفرص العمالة الحكومية..الخ. وفى هذا الإطار يمكن فهم الدعوة على انها تمرين فى العلاقات العامة. ورغم ذلك فقد كانت اجتماعات ممثلى منظمات المجتمع الدولي مع مسؤولي الصندوق والبنك على قدر عال من الشفافية وذات فائدة كبيرة كما سأذكر لاحقاً.
وكان اليوم الأول كاملاً مع مسؤولي الصندوق بما فى ذلك لقاء للمجموعة مع السيدة كريستين لاقارد مديرة الصندوق، واليوم الثاني كان كاملا مع ممثلي البنك بما فى ذلك مائدة مستديرة مع بعض أعضاء مجلس الإدارة. وقد دار النقاش حول السياسات الاقتصادية وآثارها على الفقراء والإجراءات الخاصة بتوفير شبكة أمان أو حماية للفقراء، وعن سرية المفاوضات مع الحكومات وضرورة مشاركة المجتمع المدني فى معرفة تفاصيلها قبل الموافقة عليها..الخ. وقد تضمنت الإجابة أن بعض هذه السياسات لها قيمة سوقية مثل السياسات الخاصة بسعر الصرف، وهنالك صعوبة فى كشفها، وأحياناً تكون الحكومات نفسها غير راغبة فى كشف مقترحات السياسات وإخضاعها للنقاش. ولكن هنالك ضغوطاً متزايدة لنشر تقارير بعثات الصندوق السنوية والمعروفة بمشاورات المادة الرابعة، وقد استجابت دول عديدة وقامت بنشر التقارير. وقد تعرض النقاش أيضاً إلى ان بعض الحكومات لا تمثل شعوبها، وبالتالي فإن ما توافق عليه قد لا يمثل المصالح الحقيقية للمواطنين، وقد أوضح مسؤولو الصندوق ان بعثات الصندوق أحياناً تحاول لقاء المعارضة لتستنير بآرائها، لكن بعض الحكومات ترفض ذلك باعتبار ان معرفة المعارضة بالسياسات قد يتم استغلالها ضد الحكومة القائمة.
واشتمل برنامج المنتدى المدني على نحو «60» من الفعاليات من ندوات ومحاضرات ولقاءات منقولة بواسطة الفضائيات. وقد شملت الأخيرة لقاءً شارك فيه رئيس البنك الدولي وكبير الاقتصاديين بالبنك حول كسر قوس الفقر، وآخر بعنوان أصوات عالمية ضد الفقر شارك فيه كل من رئيس البنك الدولي والسكرتير العام للأمم المتحدة بصفة رئيسة، بالإضافة الى مشاركات من كل من بروفيسور محمد يونس مؤسس بنك غرامين للتمويل الاصغر ببنغلادش، وتريفر مانويل وزير مالية جنوب افريقيا السابق، وثالث حول الدول ذات الدخل المنخفض فى اطار الاقتصاد العالمي شارك فيه نائب مدير الصندوق مع آخرين، ورابع حول الإصلاح الاقتصادي فى دول الشرق الأوسط ذات الأوضاع الانتقالية «دول الربيع العربي»، وخامس لقاء ل (BBC) مع كريستين لاقارد مدير صندوق النقد الدولي أجراه ستيفن ساكر مقدم برنامج «هاردطوك» الشهير.
وكان ما يشغلني طوال الزيارة والاجتماعات المختلفة هو الإجابة عن سؤال مهم خاص بالديون وإعفائها والبرنامج الأساسي الخاص بذلك، وهو مبادرة إعفاء الديون الخاصة بالدول الفقيرة ذات المديونية الكبيرة «هبك HIPC». وبالرغم من معرفتي بحكم المهنة بالخطوات المؤدية الى نقطة اتخاذ القرار القاضي بالاعفاء الجزئي او الكلي للديون وهامش اتخاذ القرار الخاص بالصندوق وديونه «وهي غير قابلة للإعفاء» إلا أنني كنت حريصاً على سماع الإجابة من «فم الأسد» كما يقولون حتى يطمئن قلبي «أو لا يطمئن نهائياً». وقد اتيحت لى الفرصة فى لقاءين الاول فى اجتماع مصغر بين مجموعة المنتدى المدني من دول الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا «مينا» حوالى سبعة أشخاص مع نائب مدير إدارة الشرق الأوسط بصندوق النقد الدولى السيد عدنان مزارعي، وقد سألته مباشرة عن ديون السودان الخارجية وامكانية استفادة السودان من مبادرة الهبك علماً بأن السودان عليه متأخرات كبيرة للصندوق «صححنى قائلاً أعلى متأخرات للصندوق فى العالم على السودان» وديونه غير قابلة للاستدامة وفقاً لمؤشر نسبة الدين للصادرات ونسبة الدين للناتج المحلى الإجمالي والإيرادات الحكومية، بالإضافة إلى أنه دولة شمولية وعلاقاته الخارجية سيئة مع أغلب الدول الكبرى الذين هم فى نفس الوقت كبار الدائنين. وكانت إجابته واضحة اكثر مما توقعت. فقد قال اولا، ان للصندوق مساهمين وهذه «اى الديون ومتأخراتها» «فلوسهم» ويجب أن يتم سدادها. ثانياً، لا يمكن ان تكون لك علاقات غير جيدة مع الدائنين وتتوقع منهم ان يعفو ديونهم. فقلت هل تقصد ان الموضوع سياسي وعلى السودان ان يوفق أوضاعه سياسياً مع هذه الدول اولاً؟ فأجاب بنعم . اما عن سؤالى حول هل يمكن للصندوق ان يفعل اى شيء فأجاب بلا.
وفي الندوة التي أقيمت حول وضع الدول الاقل دخلا فى الاقتصاد العالمي التى شارك فيها نائب مدير صندوق النقد الدولى ومسؤولون آخرون كبار من الصندوق ووزيرة مالية يوغندا، وأمها عدد كبير من المشاركين، تقدمت بنفس السؤال لأعضاء «البانل» خاصة نائب المدير، بعد أن أوضحت أنني من السودان، فأشار الى احد المشاركين ليجيب عن السؤال. وقد كان رده انه على دراية كاملة بموضوع السودان، وان الموضوع معقد، وان هنالك خطوات يجب ان تتم حتى يستفيد السودان من المبادرة المذكورة..الخ. ولما كانت الإجابة غير مقنعة لى انتظرته بعد الندوة حتى ينزل من المنصة، وقلت له إنني باحث من السودان وأريد جواباً واضحاً على سؤالي «هل يمكن للصندوق ان يفعل اى شىء فى حالة السودان؟ فأجاب بالنفي، فقلت له هل يعنى ذلك توفيق أوضاعه السياسية مع الدائنين أولاً؟ فكانت إجابته نعم.
حقيقة الامر أن مبادرة «الهبك» لها شروط فنية وإجراءات. والشروط الفنية هي ان تكون عند الدولة إستراتيجية لتخفيف حدة الفقر وان يكون لها track record جيد فى اتباع السياسات المتفق عليها فى الاستقرار الاقتصادي بالإضافة الى كبر الدين وكونه غير مستدام، وهذا ليس فيه مشكلة «انظر أدناه». والإجراءات اولها هو اجتماع نادي باريس للدائنين «ويضم كل الدول الاوربية واليابان وأمريكا» حتى يتفق الدائنون مع الدولة المدينة على إعادة جدولة الديون بشروط سهلة، وبعدها تذهب الدولة المدينة للدائنين الآخرين غير اعضاء نادي باريس، وهي دول مثل الدول العربية والصين والهند لاقناعهم بمنحها نفس الشروط على الاقل حتى لا تفهم دول نادي باريس ان هنالك دولاً نالت شروطاً افضل.
وإشكالية نادي باريس «الدول الغربية الكبرى» أن آلية اتخاذ قرار عقد الاجتماع نفسه وقرارات إعادة الجدولة، هو الإجماع. اى ان الاجتماع لا يقوم أصلاً «بصرف النظر عن النتائج»، إلا إذا وافقت كل الدول الأعضاء. وهنا يجيء دور أمريكا وموافقتها او على الأقل عدم اعتراضها على الاجتماع. ومن أجل أن توافق أمريكا على عقد الاجتماع فهى ستتوقع تنفيذ شروط غير فنية او «بصراحة» اكثر، سياسية.
لكن دعونا أولا «نشوف» حجم المشكلة التى نحن فيها بسبب الديون الخارجية وكم هي أصلاً. آخر الإحصاءات «نهاية ديسمبر 2012» تقول إن إجمالي الديون قد بلغ «41.4» مليار دولار، أصل الدين منها يبلغ «17» مليار دولار، والفوائد التعاقدية والجزائية تبلغ «24.4» مليار دولار، اى ان نحو 60%. والشروط الفنية التى تؤهل الدول للاستفادة من مبادرة «الهبك» كما اسلفنا هي عدم استدامة الدين الخارجي، ومؤشراته هي ان تكون نسبة الدين للصادرات على الأقل 100%. ونسبته للناتج المحلي الإجمالي 30%، وللإيرادات الحكومية 200%. وقد زادت مؤشرات عدم الاستدامة «اى عدم إمكانية معالجة امر الديون بالطرق التقليدية غير شاملة الإعفاء» في السودان عن الشروط المؤهلة بأكثر من عدة أضعاف، اذ بلغت نسبة الدين للصادرات بنهاية ديسمبر الماضي 403% ونسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي 75% ونسبته للإيرادات الحكومية «1004%» يعنى ألف في المائة. وبالعربي الفصيح فإن السودان مؤهل بامتياز للاستفادة من مبادرة المجتمع الدولي لحل مشكلات ديون الدول الفقيرة «يمكن القول ان كل مواطن سوداني عليه نحو 1330 دولاراً».
علماً بالشروط الفنية وغير الفنية المذكوره اعلاه ، ماذا يمكن أن نقول للمسؤولين. وهنا أرى انه ليس أفضل من الدكتور عبد الوهاب عثمان وزير المالية الأسبق فى عهد الانقاذ ، والذي حقق نجاحات اقتصادية معتبرة أثناء توليه الوزارة فى الفترة 1996 2000م، بما فى ذلك استقرار سعر الصرف وخفض التضخم حينها، ليحدث هو حكومتنا الرشيدة «نحن خلينا» عن الورطة التي نحن فيها بسبب الديون. وفي كتابه الجديد «2012م» وقيد التدشين في الأيام القادمة بعنوان «منهجية الإصلاح الاقتصادي في السودان «2001 2011م»، يقول الدكتور عبد الوهاب «إن مشكلة الديون الخارجية يجب تجاوزها لإرساء الأرضية الراسخة والبيئة المواتية لاستدامة النمو الاقتصادي بوتائر عالية.. وذلك لأن عدم السداد قد أدى الى توقف تدفقات القروض والمنح من المؤسسات الدولية والإقليمية والدول المانحة، مما ادى الى توقف مشروعات التنمية الذي ادى بدوره الى التأثير في قدرة البلاد على تسديد تلك الالتزامات وبالتالي الى تفاقم المشكلة.. كما أن انحسار تدفقات القروض الميسرة والمنح أدى الى اللجوء الى مصادر التمويل قصير الأجل وبفوائد عالية، مما أدى ويؤدى الى مخاطر اقتصادية وسياسية غير محسوبة، ومن ذلك تفاقم المشكلات الامنية التى يواجهها السودان الآن بسبب قصور الدولة فى تحقيق نمو شامل» «ص69».
وحقيقة الأمر أن هذه الديون الضخمة غير المستدامة تؤثر ليس فقط في الحساب الخارجي وإنما أيضاً في الأوضاع المالية الداخلية بما فى ذلك تقليل الموارد المتاحة للمشروعات التنموية والخدمات من صحة وتعليم ومياه. اما التعقيدات الأخرى فهي ليست فقط انحسار القروض والمنح وإنما حتى إمكانية الاستدانة من أسواق المال العالمية التى اصبحت مكلفة ان لم تكن مستحيلة لارتفاع المخاطر الخاصة بدولة مثقلة بالديون مثل السودان «وتحت الحظر كمان».
قلنا إن السودان أكثر من مؤهل من ناحية فنية للاستفادة من المبادرة الخاصة بإعفاء الدول الفقيرة المثقلة بالديون. لكن ماذا عن المؤهلات السياسية؟ وفي هذا الإطار يذكرنا د. عبد الوهاب بأن وزارة الخارجية الأمريكية قد أصدرت قراراً فى عام 1996م يقضي بمنع التسهيلات والقروض والمنح المالية والثقافية للسودان، ثم دعم الكونغرس الامريكي ذلك القرار عام 2003 بقرار يقضى بمنع ممثلى الولايات المتحدة الأمريكية لدى المنظمات المالية الدولية من التصويت لصالح أية دولة مدرجة فى قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقد كان السودان من ضمن تلك الدول ومازال. وهنا نعود إلى إجراءات إعفاء الديون التى تتضمن اجتماع نادي باريس «للدول الغنية الدائنة» للنظر فى ديون الدولة المعنية بعد موافقة صندوق النقد الدولي على طلبها انعقاد الاجتماع.
ونعود مرة اخرى الى دكتور عبد الوهاب عثمان وكتابه الجديد والجيد اذ يقول: «ان العقبة امام السودان للوصول الى تلك المبادرة تتمثل فى علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية.. والمعلوم انه فى ظل العلاقات السالبة القائمة مع الولايات المتحدة لا يمكن الحصول على المزايا التى تمنحها تلك المبادرات بالرغم من المؤهلات الفنية التى يستوفيها السودان». ولا ينبئك مثل مسؤول. ولانه لا يمكن توقع صدور قرار فى صالح السودان لأن ممثلي الولايات المتحدة الأمريكية مقيدون بقرار الكونغرس الذي يمنعهم من التصويت لصالح دولة مدرجة فى قائمة الدول الراعية للإرهاب، يمحض الدكتور عبد الوهاب «وهو من أهل البيت الإنقاذي» النصح لاهل بيته قائلاً: «اعتقد ان اهم محور لمعالجة ديون المؤسسات المالية العالمية ونادي باريس ونادي لندن التي تمثل 60% من جملة الديون القائمة، هو معالجة العلاقات السياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية» «ص 88». وهذه النصيحة تدخل في باب ما يمكن ان يسمي ما علم من امر معالجة الديون الخارجية بالضرورة .
إن حل مشكلة الديون الخارجية هو المفتاح الأكثر أهمية لإصلاح حالنا الاقتصادي والسياسي معاً بما فى ذلك القطاع الخارجي للاقتصاد الذي سيطرت عليه اخبار الدولار وأسواقه الرسمية والموازية، لأن القروض والمنح «والسداد على صغر حجمه الآن» جميعها من موارد النقد الاجنبي المهمة. وتتضح علاقة السياسة بالاقتصاد فى ابهى صورها فى علاقة السياسة الخارجية بتجفيف موارد النقد الأجنبي المتاحة اذا كانت تلك السياسة غير راشدة. انظر مثلاً إلى ما تفعله زيارة رئيس دولة مثل السيد أحمدي نجاد للسودان وإمكانية عرقلة تلك الزيارة لموارد مالية من دول الخليج العربي، هذا غير نتائج سياسة «امريكا روسيا دنا عذابها» في زمن غابر . وقد قيل هنا ان القائم بالاعمال الامريكي وقتها سأل الدكتور حسين ابو صالح وكان وزيراً للخارجية عن ان هنالك اهزوجة تقول كذا فهل ذلك صحيح، وعندما أجابه بأن ذلك صحيح قال السفير «كلاهما؟ لا بد أن تكونوا غير جادين» Both of them. You must be kidding. عدم الرشد ليس فقط فى السياسة الخارجية وإنما ايضاً فى «بعزقة» الموارد المحلية بما فى ذلك عوائد صادرات النفط. وقد قيل ان احد المسؤولين البريطانيين قال لماذا تعفى لكم بريطانيا ديونها وانتم لكم موارد تبنون بها العمارات الشاهقة فى قلب الخرطوم «ولا يخفى القصد» .
لقد عانى الاقتصاد السوداني كثيراً من السياسة الخارجية غير الرشيدة، وربما يذكر البعض زيارة السيد بابكر عوض الله نائب رئيس مجلس قيادة «ثورة» نميري الى ألمانيا الشرقية حوالى عام 1969م واعترافه بها هناك على الهواء «مجاناً» ودون تفاوض حول تكلفة ذلك الاعتراف. وقد سحبت بعده المانيا الغربية مساعداتها للسودان، ويعتقد ان من تكلفته تأخر تعلية خزان الروصيرص لأكثر من اربعين عاماً بعدها والامثلة كثيرة. ولكن بالطبع عدم رشد السياسة الخارجية للانقاذ لا يقارن، وها نحن نجنى ثماره المرة.
ارتباط اعفاء الديون الخارجية وفك الاختناق المضروب على السودان بالسياسة الخارجية أمر لا تنتطح فيه نعجتان. وما دامت سياستنا الخارجية ليست على قدر «اللحاف» فمن الطبيعي ان ندفع ثمنها جميعاً، وبالامس القريب هذا فرض كل من بنك (HSBC) وبنك Standard Chartered قيوداً على حسابات السودانيين بهما، وطلب من الكثيرين قفل حساباتهم بالاضافة الى منع التحويل للسودان والسودانيين.
إن تحسين العلاقات مع الدول الغربية او امريكا على وجه الخصوص له مطلوبات ومستحقات يجب الإيفاء بها، وهو ليس اتفاقاً يمكن ان تبرمه الحكومة اليوم ولا «تشتغل به» غداً مثل التعامل مع اتفاقيات السلام مع الحركات المسلحة، كما انه ليس تقديم خدمات او معلومات حول الارهاب فقط. وهنالك مسلمات او ثوابت بلغة المسؤولين فى النظام العالمي الآن، ومنها الحكم الراشد ومشاركة الوان الطيف السياسي فى عملية انتخابية شفافة ومراقبة دولياً تفضى الى أوضاع ديمقراطية تبسط فيها الحريات السياسية والدينية والثقافية وتصان فيها الحقوق، وتراعى فيها حقوق الأقليات العرقية والدينية وتتساوى فيها فرص المواطنة الكاملة، ويتم فيها السعي الى إزالة المظالم التاريخية وعدم المساواة فى المشاركة فى السلطة، بالإضافة بالطبع الى محاربة الإرهاب والتطرف الديني، ويجب ان يلعب المجتمع المدني فى كل ذلك دوراً بارزاً. وباختصار مطلوبات المجتمع الدولى «او الغرب على وجه الدقة» إصلاح سياسي شامل يؤدي فى النهاية الى استقرار سياسي واقتصادي، ولا يمكن الوصول الى هذا الا بحل المشكلات العالقة داخلياً وخارجياً. ولا بد ان يكون كل هذا فى ذهن الدكتور نافع عند زيارته المتوقعة للولايات المتحدة.
وعندنا فى السودان نقول اذا رأى المدين الدائن من بعيد فإنه يترك له الدرب. هذا على مستوى شارع القرية او سوقها. اما على المستوى العالمي فقد سدت أمريكا علينا الدروب واغلقت كل المنافذ، وسوط امريكا نافذ حتى على الدول الأوربية، ويا ويل الدولة او البنك او الشركة التى تتجاهل قرارات الكونغرس الأمريكي. وللأسف الشديد هذا هو الواقع والتعامل معه ليس انبطاحاً وإنما عقلنة للقرار السياسي. وعلى ذكر الانبطاح نذكر ملحة حدثت فعلاً، فقد قيل انه كان هناك اجتماع كبير مع السفراء بوزارة الخارجية «في نحو عام 1992» رأسه محمد الامين خليفة عندما كان احد كبار المسؤولين فى السلطة ومشرفاً على الوزارة. وبعد نقاش وتسخين حول السياسة الخارجية طلب احد قدامى السفراء الحديث، فقال انه يرى «مجازاً» «أن غضب أمريكا زى غضب الوالدين، والأفضل للدولة ان تكون حريصة فى سياستها ولا تعطى مجالاً للغضب الأمريكي». فانفعل الأستاذ محمد الأمين خليفة قائلاً نركع ليها يعنى؟ فرد السفير ببرود لا ما تركعوا، «تنبطحوا». وكل ذلك على ذمة رواة الواقعة المشهودة وهم كثر.
لقد جاء فى الصحف «الأخبار 6/5/2009م» ان هناك اتفاقاً مع دولة الجنوب ينص على ان يتحمل السودان الديون بشرط ان يتم إعفاؤه او يتحصل على التزام من الدول الدائنة بإعفائه خلال سنتين. وفى هذه الأثناء يمكن لدول نادي باريس منح دولة الجنوب قروضاً ولكن ليس للسودان، وكل ما يمكن ان يفعله السودان بعد سنتين إذا لم يتم إعفاؤه ان يعاد تقسيم الديون بين البلدين. والأرجح هو انه خلال السنتين المذكورتين سوف يمنح الجنوب قروضاً «قد تكون كبيرة وكثيرة» ولكن لن يكون هنالك اعفاء للديون للسودان إذا لم يتم التوافق على إصلاح سياسي شامل على مستوى السياسة الخارجية وعلى مستوى المشاركة الواسعة داخلياً والتحول نحو أوضاع ديمقراطية كاملة.
إن التعامل مع امريكا هو احدى الحقائق المرة، رضينا أم أبينا، وفى جميع الأحوال ومهما أوتيت الدولة من موارد ناهيك عن أن تكون دولة نامية فإنها لا تستطيع ان تبقى على عداء مستديم او سوء علاقة مع الدول الكبرى خاصة امريكا وعلى الدولة «المسلمة» أن تخاف الله فى شعبها وما ينابه من متاعب جراء عدم رشد سياستها الخارجية.
فيا جماعة الخير كما يقول البونى ان دافع اصلاح العلاقة مع امريكا، ليس حباً في امريكا ولا حباً لها، وانما هو حب لهذا الوطن وشعور بمعاناة مواطنيه. ايها المسؤولون قوموا الى ايقاف الحرب وحلحلة مشكلاتنا الداخلية والخارجية، قوموا إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي الله يرضى علينا عليكم، عسى أن يجعل الله ذلك في ميزان حسناتكم «بعد الحالة دي».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.