د. بخيت أبكر حسن إبراهيم: أقام مركز الموسيقى التقليدية السودانية منتداه الدوري بمقره بأم درمان، حيث دأب المركز على تناول أنماط من الفنون الشعبية بغية تطويرها ونقلها إلى مصاف الاقليمية والدولية ما أمكن، وقد صادف السادس عشر من مارس الماضي يوماً عن الموسيقى التقليدية عند المساليت، وكان بحق منتدى محضوراً له ما بعده، فقد أمه جمع كريم من المختصين والمهتمين بشأن الموسيقى التقليدية ضمن منظومة التراث الشعبي القائم على التنوع الثقافي وأوعيتها المتعددة من عادات وتقاليد وأعراف وغيرها من المعينات الثقافية، وكان ممن شرفوا المنتدى الدكتور الماحي سليمان أستاذ الموسيقى بالجامعات، علاوة على اسهاماته الثرة في ذات المجال، وأذكر من ضمن ما جاء في كلمته التي ألقاها في المنتدى محرضاً الشباب بتعظيم الثقافة المحلية، وألا يستحي الانسان أو يستخف من قدرات ومقدرات مجتمعه وتحديداً آلاته الموسيقية أياً كان نوعها، وألا يقبل الدونية أو التقاصر أمام كل آلة وافدة، بل عليه أن يتشامخ أمام الآخرين بجهده وبما يملك. كما شرف المنتدى الأستاذ صديق صالح مدير ادارة الفنون بوزارة الثقافة والإعلام، وأثنى في مداخلته على ما قدمه الشباب من عروض فنية ذات الطابع الشبابي الوثاب، متمنياً لهم حظاً وافراً في تقديم هذه اللونية من الفن والمشاركة في المنتديات التنافسية. وأدار المنتدى الأستاذ دفع الله الحاج مدير المركز وبطريقته الأخاذة، مثرياً الزمان والمكان بكم هائل من الافاكيه والنوادر، مقتبساً بعض الكلمات الدارجة التي وردت في كلمة الأستاذ يوسف عبد الله حماد رئيس هيئة شورى المساليت بولاية الخرطوم في فاتحة المنتدى، متناولاً الموسيقى التقليدية في اطارها الجغرافي والتاريخي لدى سلطنة دار مساليت باعتبارها، أي الموسيقى، لغة عالمية وأداة تخاطب لمن تأتلف عندهم الأذواق، رامزاً في ذات الوقت إلى نزر يسير من سيرة من توالوا على سدة السلطنة وتعظيمهم للموسيقى التقليدية، وذلك لدورها الرائد في تجسير العلاقات البينية وبناء دعائم السلام، والحث على سبل كسب العيش الكريم، بجانب أثرها في المناسبات الاجتماعية الأخرى من زواج وختان ونفير واستنفار، ثم تلت كلمته جملة من العروض الفنية الطروب، فالشاهد أنها عروض أو رقصات تقوم على الفئة العمرية، فالشباب عادة ما تبدو رقصاتهم حماسية وفي قفزات أو وثبات لكأنهم ينادمون أو يتجاوبون مع الثريا من الثرى، كما للكبار رقصاتهم التي تلائم أعمارهم. وتعتبر قبيلة المساليت في طليعة القبائل ذات الكثافة السكانية العالية تسهم بها في كافة مناحي الحياة من اقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية، وكل ما من شأنه العمل الجماعي. وتدار القبيلة بنظام اداري أهلي سلطاني الهيكل والبنيان، وتعد مثالاً نادراً في فن الادارة الأهلية الراشدة على مستوى افريقيا الغربية، فضلاً عما يحتذى بها في الأقضية خارج المحاكم وفي حل الكثير من المشكلات التي قد تعتري قبائل المنطقة وجوارها. وكان المغفور له بإذن الله السلطان الحكيم عبد الرحمن بحر الدين، وقد مرت علينا ذكرى رحيله الثالث عشر في فبراير الماضي، كان عليه الرحمة في الغالب الأعم يترأس جلسات الصلح أو التسويات، وذلك لما عرف عنه من حكمة واقتدار، ويعتلي عرش السلطنة منذ رحيله ابنه السلطان سعد عبد الرحمن بحر الدين رئيس مجلس السلطة الاقليمية لدارفور. وان جاز للتاريخ أن يصدق في شهادته وأن يفي لصناعي الأحداث الناقلة لمسار التاريخ إلى مصاف الألمعية والنجومية حقهم ومستحقهم، لسماها السلطنة التي لا تغيب عنها الشمس. ولم لا فالشمس حينما تشرق على الدنيا المصغرة (السودان) فإن طلائع أشعتها تنسل من بين كوات (قطاطي) سرف أحمر باندغو والقلابات بشقيها الغربية والشرقية، وأم بليل وتمرة وشوك فشقة والأخريات من قرى ودساكر ومدن ولاية القضارف قبل غيرها من فجاج الأرض التي تقع ناحية الغرب. وعندما تغيب ما وراء مدينة الجنينة تلك الفردوس المحسود لا المفقود أو الفردوس المهمل لا المنسي رغم خمائلها وتلالها وجبالها الراسيات ووديانها التي تجوب كل أفق ومنحنى تحمل في الماضي القريب سبل الحياة وتشكو في الحاضر من ظلم الانسان لأخيه الانسان، وتبث شكواها، أي الطبيعة، الصامتة للقصر الرابض فوق سارية الجبل في ثبات أو رسوخ الأهرامات تياها يتحدى عاديات الزمان والمكان وسياط الشمس ونطاح الأراييح، ولكن في ثقة العارفين بالنتيجة أو خاتمة المطاف أن الصولة والجولة الحتمية فقط قصر السلطان، رغم ما نالته يد الطبيعة الناطقة من إهمال في سبق وإصرار وما تلقته من حيف وجور طبيعيين، فكان ان طمست أشهر معالمها مثل بحيرة (جوليا) تحت قدمي القصر مباشرة ناحية الجنوب، وبحيرة كلنقة أعظم مسطح مائي توارى تحت طبقات الأرض. وهكذا بدا أو صار قصر قصور افريقيا مثاراً للجدل ومثالاً للتندر وآية من آيات العقوق والنكران، إلا انها كبوة جواد لا بد أن يستقيم ما دام شأن القصر الذي شهد الموسيقى التقليدية قبل غيرها من مظان الملك أو السلطان، وقبل كل قيصر أو كسرى ضمن اهتمامات كل الحادبين، وعلى رأسهم السلطان سعد عبد الرحمن بحر الدين، أو هكذا يجب أن يكون شأن هذا القصر رمزية تفيد معنى أن يعيش الإنسان وينتصر. وما وددت عزيزي القارئ تناول جغرافية أو تاريخ المنطقة، بقدر ما أردت أن أومئ إلى دور قصر السلطان حارساً أميناً للتراث الشعبي، ولكم حاولت تناول موضوع الموسيقى التقليدية لدى المساليت بمعزل عن بقاع بعينها فما استطعت، ولكن ماذا أفعل فالفكاك بين الطبيعة والموسيقى أمر يبدو جد محالاً، وقرع الطبل أو النقارة حالة (ما ورائية) لا بد من الالتفات إليها، ووثبة الشباب كهذه محطة غادرناها سنين وسنين، ولكنها الموسيقى التي قيل عنها ذات يوم إنها حينما عزفت قالوا بكى السامع المعني بالموسيقى، ولما عزفت ثانية قيل ضحك المعني بالأمر، ولما عزفت ثالثة قيل نام المعني بالاستماع، وهكذا فعل الموسيقى، حيث لا يرعي سناً ولا زمناً. ولا يفوتني أن أذكر أن كلاً من الجنينةوالقضارف فإن جل سكانهما من المساليت، فالأولى في المغرب والثانية في المشرق، علاوة على امتداد أفرادها بطول وعرض البلاد مع التمركز في (سلطانية) جوغانة (وملوكية) قريضة بجنوب دارفور بوصفهما مثالين فقط دون الاسهاب في ذكر المناطق الأخرى، الأمر الذي يؤكد أهمية هذه القبيلة في الماضي والحاضر وفي المستقبل، لا على سبيل الانتماء والعصبية والنعرة المنتنة، ولكنها حقائق تاريخية على الخريطة والجغرافيا، فكل ما يتمناه الواحد منا في حقها ان تعم الفائدة من جيل إلى جيل، ولا سبيل لتمليك هذه الحقائق إلا بالتدوين أو التوثيق أو بإقرارها في المناهج الدراسية، خاصة في مجال التربية الوطنية، وتزويد النشء بمعاني الذود عن تراب الوطن وتأصيل فكرة وحدة السودان، فقلما سجل أو سطر التاريخ بين صفحاته لأمة انضمت طواعية إلى دولة مجاورة سابقة بذلك ظاهرة العولمة بمئة عام أو يزيد، مثلما انضمت سلطنة دار مساليت إلى السودان في اعتداد وحب وشهامة، ومنذئذٍ علت أسهمها في اللعبة السياسية. ورغم تمثيلها المتواضع في هيكل الدولة إلا أنها ستظل وفية للتاريخ الذي أوجدته الأجيال السابقة، ورافداً مهماً لنهر الإنتاج، ومعلماً بارزاً من معالم الوحدة الوطنية، ومدرسة مهمة لنظرية الادارة الأهلية الراشدة، وكل هذا وأكثر من هذا يجعلنا والآخرين في دعاء عريض عند السحر والأماسي والعشيات، بأن يرفع الله عنا بلاء التقاطع القبلي ويصفو ما ران من كدر وغمة في العلاقات بين بعض القبائل، أو هكذا بدأت القبيلة صفحتها الأولى بالموسيقى التقليدية، وقالت على شاكلة قول الراحل نزار قباني: سجل برأس الصفحة الأولى أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد ولكني إذا ما جعت أكلت لحم مغتصبي حذارِ حذارِ من جوعي ومن غضبي ولأن السلام أوله كلام، فالكلام هنا للموسيقى التقليدية عند المساليت، حيث النقارة والدنقر (والبنو) أو البوق والكربي وأم كيكي، بجانب الأداء (المموسق) دونما آلة، مثل رقصة الدبج وأم جليلة وسائر الفنون التي فصلها الأستاذ ابراهيم يحيى عبد الرحمن الأمين العام لمجلس ترقية وتطوير اللغات القومية (ابن دايرو) بمحلية هبيلا في شيء من الدقة والإبانة لكل فقرة أو عرض فني، وذلك في معية ابن (مسترى) الأستاذ عمدة يونس اسماعيل الرجل الذي تمكن من المزاوجة بين القانون والمحاسبة والادارة الأهلية، دون أن ينسى ذكر عمالقة الفن مثل (كوتوكي ارتقا جكسا سنهوري الزمان إرتبا عبد المجيد أيجد ويوسف سيسكو وجمعة شماس، وغيرهم من الكواكب التي لا تطفأ بالأفواه، فصار عمدة يونس نعم الرائد لأهله). وبقى أن نقول إن الحديث عن الموسيقى التقليدية عند المساليت موضوع مهم جداً يحتاج إلى المختصين للاسهاب والتفريع والتنويع، ولا شك أن هناك الكثيرين من الإخوة بوسعهم الإسهام هذا المجال واثراء الساحة الفنية بما يخدم الانسانية في اطار المجتمع المتماسك، ولغته في ذلك الموسيقى الراقية، فالأمر فيه نداء للتاريخ الذي توارى خلف أسوار السنين ليطل علينا من جديد بذات المحيا القديم، حيث النبل والأصالة والشجاعة، فاجترار الماضي على انغام الموسيقى التقليدية خطوة مهمة، فلنحي مركز الموسيقى التقليدية السودانية على هذه الالتفاتة البارعة نحو الماضي، ولأنه يرمز إلى التواصل لما انقطع من حديث الانسان مع نفسه ومع الآخرين، ولكن قطعاً لن تكتمل الصورة والأهل في معسكرات اللجوء والنزوح، فلنعمل معاً من أجل العودة الطوعية إلى قرانا آمنين، حيث لا يخاف الانسان إلا من الذئب على غنمه، وعندها يمكن فقط تعريف الموسيقى التقليدية عند المساليت أهل السلطنة التي لا تغيب عنها الشمس، بكامل تفاصيلها وجزئياتها التي يتعذر تناولها في عجالة كهذه.