للأسف الشديد فإن قضية دارفور مازالت تتشقق وتتمدد منذ أن بدأت في عام 2003م. بدءاً بالحركات المسلحة التي حملت السلاح ضد المركز. ولكنها بدأت من دارفور وقسمت المجتمع اثنياً، باستثناء العدل والمساواة، هذه التقسيمات أفضت إلى صراع شبه قبلي، مليشيات شبه قبلية تناصر الدولة وأخرى مثلها تناصر الحركات المسلحة، ولكن في النهاية لا الحركات انتصرت على الدولة، ولا الدولة انتصرت على الحركات، ولكنهما تركا قُنبلة قبلية تنفجر كل يوم وتمتد نيرانها لتلتهم الأخضر واليابس، بدءاً بما سمى جزافاً وكذباً صراع الزرقة والعرب، وليس انتهاءاً بصراع العرب العرب. وقبل سنتين سمعت من أحد الناعقين بالفتنة قال إن دوري الحرب بين العرب والعرب بدأ بالفعل عندما قامت المشكلة بين الفلاتة والهبانية، الهبانية السلامات، الرزيقات المسيرية في غرب دارفور، البني هلبة الترجم، وهكذا من مآسٍ. وقال الرجل الناعق إن الكأس سيكون في النهاية بين القبيلتين الكبيرتين الرزيقات والبني هلبة، ولا أدري كيف ربط هذا الناعق بين هاتين القبيلتين اللتين لا تربط بينهما حدود مشتركة، وبالتالي لم يكن هناك صراع حدود وصراع حواكير، ولكنه قال ذلك أمامي. وربما تكون تلك المقولة أمنيات أو توجسات أو خطط استراتيجية مبرمجة. وعلى كل فإن الذي ينظر لهذه الأحداث هذه الأيام وعن قرب ينتابه شعور الخوف والارتباك، ولا شك أنه سيتذكر مثل تلك المقولات التي عندما قيلت كُنا نعتقدها مجرد أحلام وأوهام تنتاب أصحاب القلوب المريضة، ولكن بالنظر للواقع وفحص حيثياته لا شك أنها تذهل، فكيف لحرب اندلعت في أم دخن تلك الوحدة الإدارية التي تقبع في مكان قاسٍ وقصي بينها وافريقيا الوسطى مرمى حجر فقط، بين السلامات والمسيرية، ثم في أقل من أسبوع وصلت الضواحي الغربية لرهيد البردي، ومات خلالها الناس ونزحت الأسر الكريمة وفقدت الأموال وأُحرقت البيوت، إذن أصبحت الحرب لا تعرف الحدود ولا حتى الصراع في الحواكير، فذلك الناعق كان يعلم ما لا نعلم، ويخطط ما لا نخطط له ويتحسب لما لا نتحسب له، وبهذه المعادلات وبتلك الوقائع يمكن أن يكون الكأس بين البني هلبة والرزيقات أو الهبانية والتعايشة، أو حتى بين الزيادية والرزيقات الشمالية، ضربت مثلاً بهذه القبائل العربية، لأننا في صراعنا ضد الحركات المسلحة أدخلنا معظم القبائل الأخرى في أقفاص المعسكرات، واعتقدنا أن أرضهم هي أرضنا مادام أهلها تركوها، ومادام الأمر كذلك فلا بد من التوسع، والتوسع على حساب من؟ لذا من الضروري أن تقوم هذه الحروب العربية العربية على حقوق معظمها ليست لهذا ولا لذاك. ومعروف من هو صاحبها. وسيعود إليها يوماً ولو بعد حين، وهو ينظر من ثقوب ذلك الكوخ أو الباب المثقوب. ولن يضيع حق وراءه مطالب. إذن فيم الاقتتال؟ أكان ذلك الرجل ناعقاً أم ناعياً دارفور وبمن فيها؟! إن الحروب التي تجري الآن في جنوب دارفور، حروب معلومة عندما وزعنا السلاح دون رشد، وأجهزنا على الادارة الأهلية دون بديل، وعندما اعتقدنا أن الذي يجري في دارفور كالذي يجري في الواق الواق، لا يهم فالنار بعيدة عنا، ولكن أذكر بشيء واحد، لقد كنا نسمع أن حرب الجنوب في نمولي وكبويتا، والآن وصلت أم روابة وأبو كرشولا والله كريم، نعم بالله الله كريم. ونحن في دارفور عندما اندلعت المشكلة في أقصى شمال دارفور في أم برو والطينة وكاري ياري، كنا نعتقد أننا في جنوب دارفور في مأمن حتى ضربت برام وحوصرت الضعين من كل جانب. لذا على الجميع الوقوف انتباه وليس الارتكاز على بعد المسافات، أو على ماضي التاريخ. وبغض النظر عن تحركات الحركات المسلحة في دارفور فهذه أمرها معروف ودورها مكشوف واستراتيجيتها معلومة، ولكن ما هي أسباب الصراع الأخيرة بين العناصر العربية التي كانت تعتقد أنها كانت في خندق واحدة كما يزعمون، أعني المقاتلين بالذات؟ للاجابة على هذا السؤال، أرى الآتي: 1 إن السلاح الذي وزع بطريقة غير قانونية وغير مرشدة وغير منضبطة أفضى لكل ذلك، فالمسؤولون الذين قاموا بتلك المهمة يتحملون المسؤولية أمام الله ثم أمام التاريخ والناس، عن كل الأنفس التي فقدت جميعها في دارفور القاتل والمقتول. 2 الاجهاز على نظام الادارة الأهلية الذي بدأ في الخمسينيات من القرن الماضي مروراً بستينيات ثورة اكتوبر التي طالب روادها رسمياً بتصفيتها، ووصلاً بانقلاب مايو الذي حل الادارة الأهلية في 1971م، وانتهاءً بالحاضر الذي جعل قادة الادارة الأهلية جزءاً أساسياً من نظام الحزب الحاكم مع تقليص سلطاتها، وساهم كل ذلك ببذر الفتن وقيام قيادات جديدة شبه عسكرية بديلاً للإدارة الأهلية. 3 غياب الدولة وضعف الادارة الأمنية عن عمد أو غير عمد، هو سبب أساسي لكل الحروب وخاصة الحروب الأخيرة التي سميت حروب التعايشة المسيرية من جهة والسلامات من جهة أخرى، أو حرب القمر والبني هلبة التي انتهت قبل يومين باحتلال عاصمة القمر في جنوب دارفور وحرق المدينة بنسبة 90% كما قال المتحدث باسم القمر. والجديد في الأمر ان ظاهرة التنادي والاستنصار أو الفزع أصبحت عامل هدم جديداً للعلاقات وصب الزيت على النار، بمعنى أن كل قبيلة كبيرة في دارفور لها بطن هناك في ولاية طرفية، فما ان تقع حرب قبلية في جنوب أو شمال دارفور، إلا ويحصل التنادي والاستنصار بذلك البطن الصغير في تلك الولاية الطرفية، بطن صغير ولكنه متمكن عسكرياً وعملياً أكثر من تلك القبيلة الأم التي ربما ترهلت أو تمدنت أكثر من تلكم، فهذا الأمر إن لم يحسم فسنحترق أكثر مما احترقنا. وربما يصل الأمر لحرب كحرب شلنقو في القرن الثالث عشر التي قامت على اثرها حرب عربية عربية في دارفور قتلت مئات الآلاف من البشر، انقطع نسل قبائل بأسرها بسببها، والآن التاريخ يعيد نفسه ولكن بأبعاد وشخوص مختلفة، ومازلت أتذكر قول ذلك الناعق: إن الكأس سيكون بين الرزيقات والبني هلبة، ولا أدري كيف ومتى ولماذا؟ ومن الذي سيفوز بالكأس، ولكن كل قرائن الأحوال تشير إلى قول ذلك الناعق، إن ظاهرة التفلت من حضن الادارة الأهلية والأبواب المواربة التي تنظر من خلالها الحكومة للقبائل في دارفور وبدع التنادي، تشير إلى فتن كقطع الليل المظلم يقف الحليم منها حيران، ولذلك أكرر أهو ناعق أم ناعٍ. أقف إجلالاً واكباراً لرجال الادارة الأهلية السابقين الذين كانوا يزنون الأمور بميزان الذهب، ولا يتركون صغيراً ينعق بالفتن حتى يلقى مصيره المحتوم حتى لا يكبر وتكبر معه الفتنة، أقف وأحيَّ كل الذين وقفوا في السابق يؤازرون هذه الادارة، والتفت وفي وقفتي هذه لأقول لعقلاء دارفور ان الذي يجري نحن مسؤولون عنه جميعاً، إما بالسكوت أو المشاركة الفعلية أو بعدم المبالاة، والآن النار بدأت تقترب رويداً رويداً من الجميع فماذا أنتم منتظرون؟! إن الحل بأيدينا نحن وليس بغيرنا، ولا تتوقعوا أن يأتي الحل من غيرنا، ربما يساعدنا الآخرون ولكن الحل بأيدينا نحن، ويجب أن نعظم دور الادارة الأهلية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وأعتقد ان هذا من أولى مهام مجلس الأمن الجديد برئاسة السلطة الإقليمية في دارفور. نعلم أن هناك قبائل كبيرة لها حواكيرها وعلى جانبها قبائل أصغر، والحق لا يؤخذ بهذه الكيفية التي نراها في القبائل التي يشرئب عنقها لإمتلاك الحقوق في الأرض، والنظارة في الادارة، وقلنا ولازلنا نقول إنه لا بد من مؤتمر للأرض نتناقش فيه، ومن خلاله ننفذ جميعاً لقرار متفق عليه حول استعمالات الأرض وتملكها، وهذا سيحل مشكلات القبائل الكبيرة مع الأصغر أو الصغيرة كما يحلو للبعض، وبيدي لا بيد عمر. وأخيراً أقول للحكومة إن عليها أن تتوجه بصدق وارادة حرة ونية حسنة لحل مشكلة دارفور، وأن تعطي الفرصة لأبناء دارفور للجلوس جميعاً لحل مشكلاتهم وأعني بذلك أبناء دارفور في المؤتمر الوطني، فلديهم ما يستطيعون أن يقولوه. إن جلابيب الأحزاب ضيقة إذا ألبست قضية دارفور، ولكن الجلباب الوطني الفضفاض هي الذي يمكن أن يحل المسألة، ولتستميحني «زين» إن استعرت شعارها «سمحة المهلة.. سمحة المهلة».