لم يكن زميلي الفنان خالد عوض، المصمم الصحفي والفنان التشكيلي، في حاجة لأن يستحلفني ويلح علىّ لأكتب عن «ست الشاي» ولقبها ( الزنجية)تلك العفيفة الشريفة الشهمة المتعففة التي لم يمنعها فقرها المدقع وحاجتها الماسة للمال من أن ترد لهم مبلغاً معتبراً «خمسة عشر مليون جنيه»، أو إن شئت خمسة عشر ألف بالجديد، كانوا قد نسوه عندها آخر الليل، فأنا أصلاً لدي زعم قديم بأن الفقراء أكثر نبلاً وكرماً وقناعة وشهامة من الأغنياء، ولم تزدني الأيام وتجارب الحياة إلا قناعة بهذا الزعم، ولهذا لم أستغرب أو أُدهش من موقف ست الشاي الفقيرة معهم، التي لم تحفظ لهم ما لهم السايب الذي يقول عنه أهلنا أنه يُعلِّم السرقة، ثم ترده لهم وهي تنصحهم بأن يتحلوا بأعلى درجات اليقظة والانتباه فحسب، وإنما رفضت في إباءٍ وشمم أن تستلم منهم مليماً واحداً عندما أصروا على أن يكافئوها على أمانتها وتعففها بمبلغ محترم، وما هذه السيدة الفقيرة إلا نموذج لمئات بل آلاف النماذج لأمانة ونزاهة وشهامة ومروءة فقراء بلادي، ومن هم في عدادهم، ويحضرني بهذه المناسبة نموذج خاص ومن دلائل خصوصيته أن خصّه البروف علي المك رحمه الله بتوثيق سيرته، ذلكم هو الواثق صباح الخير، ذاك الفتى الذي لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين حين تم إعدامه وصلبه بموجب القوانين التي اشترعها الرئيس الاسبق نميري رحمه الله وأطلق عليها من اعتكفوا بالقصر الجمهوري وعكفوا على إعدادها مسمى قوانين الشريعة، وجريمة الواثق التي قادته إلى هذا المصير، أنه كان يسرق من الأغنياء ويصرف على الفقراء، فكان يتسور المنازل الفخيمة ويسطو على المتاجر الكبيرة ليلاً، وعند حلول الصباح يكون قد وزع أغلب ما سطا عليه على الفقراء في حيّه الذي يقطنه وخارج حيّه، لقد كان شهماً وجسوراً وكريماً محباً للفقراء رغم أنه سارق ورغم أن غايته النبيلة لا تبرر وسيلته المحرّمة والمذمومة. لقد كانت قضية هذا الفتى اليافع أنه وجد فراغاً إجتماعياً فملأه بطريقته، إنه روبن هود السوداني الذي شابهت حكايته حكاية سيد الاسم الانجليزي الذي تقول سيرته إنه كان فارساًَ شجاعاً ومهذباً ولكنه كان طائشاً وخارجاً عن القانون، عاش في العصور الوسطى وكان اسطورة، حيث كان يسلب ويسرق الأغنياء لاطعام الفقراء وجمع حوله مجموعة قوية كان يحارب بها كل أوجه الظلم والطغيان... ليس الفقير هو من لا يملك مالاً ولا سيارة، وليس هو صاحب الدخل القليل المحدود، أو هو الذي تراكمت عليه الديون، ومن جهة أخرى ليس الغني هو صاحب المليارات والعمارات والمزارع والبساتين، فالفقير هو الذي يفتقر للغنى الروحي والقلبي والقناعة واليقين، والغني هو من امتلك هذه الخصائل والفضائل، يزداد غنى كلما زادت حصيلته منها، والناس معادن بعضهم نادر ونفيس وبعضهم كالصفيح، ومعادن الناس لا علاقة لها بالمال والثراء أو الفقر والاملاق، وإنما علاقتها بالعادات والطباع والتربية والاخلاق، فمن كان عزيز النفس عالي الخلق فهو من الأغنياء، والعكس صحيح، وعلى ذلك قس يا عزيزي خالد.