الخرطوم: ولاء جعفر : لا يكاد يفارق مسمعى صوت نقرات المدق على جنبات الفندك الذي تمسكه جدتى محدثة ذلك الايقاع «دُم دُم دُم تك تك دُم تك» ليتغير الايقاع حينما ترفع حبوبة «الفندك» من على الارض وتسقطه مرة أخرى وتقرع على حافته كما يقرع الجرس فيصدر إيقاعاً حبيباً يخلق جواً من البهجة، وهى تهم بتجهيز بهارات الحلو مر وتوابل رمضان من سحن الويكة الناشفة والقرفة والكسبرة والبن والكركدي، ورفيقات جدتى يتحلقن حولها على «البنابر» هذه تقلي البن وتهزه بطريقة فنية، وتلك تسحن الويكة بفندك الخشب الكبير، وست البنات قدامها المنقد وعليه «الشرقرق» يغلى فيه الماء، ورائحة البهارات المحمسة والجنزبيل تعتق الجو لتتمايل خفقات دقات القلب طربا كلما غازلت يد حبوبة ورفيقاتها يد «الفندك» بايقاع سلس وهن يرددن بعض الكلمات، وكان هذا حالهن طوال يوم الجمعة. وانا اتنقل ببصري بينهن وتبدو على ملامحي علامات فارغة من الدهشة والاستغراب، قلت لجدتى «انتى يا حبوبه تتعبوا ليه؟ السحنات ما قاعدة» فلاحظت على وجهها الامتعاض، ولكن سرعان ما أن انجلى حينما قالت « يا بتى البهارات نكهتا بتروح في السحانة، وبعدين لمتنا دي بالدنيا» لتقاطعها ام الحسن قائلة: «ده فن وزمان كانوا بيعملو في المناسبات والافراح مع الدلوكة» ومضت الى القول والابتسامة تداعب تجاعيد وجهها: «عليكى الله اسي احنا ما فرقة موسيقية» لترتفع قهقهات وضحكات الموجودين. ولم اكن ادرك ان جدتى ملمة بالايقاعات الموسيقية الا عندما قالت: الفندك ده يا بتي به ايقاعات مختلفة منها ايقاع الهدهدة زمان كانوا ينومو بيه الطفل وتختلف الايقاعات وتتعدد بحسب نوع المواد المراد دقها مثال دق البن الذي يحتاج الى مهارة ليعطيك ثلاثة في واحد اي ثلاثة ايقاعات بدقة واحدة على «الفندك»، في الوقت الذي يتحول فيه البن الى درجة من النعومة قبل ان تعمل به القهوة، والايقاعات الثلاثة هي «المردوم والتمتم والسيرة»، ويكتمل الايقاع الراقص لتلك الدقة بطرق رفيقات جدتى على فناجين القهوة مصدرة صوتاً اشبه بصوت «كأس الدرامز». صمتت جدتى لانشغالها بصب القهوة لرفيقاتها، وبعد عدة رشفات من فنجانها قالت «فناجين القهوة لمن تكون مليانة تصدر صوتا متل صوت «الجرس»، وتواصل جدتى دق «الشرموط» على «الفندك» فيخرج الصوت كاتماً ويصبح ناعماً مع الدق بحيث يصير مثل صوت «الِبيت» في الدرامز، وبعد سحنه تهم حبوبة بتنظيف الفندق من بقايا الشرموط لتضع البهارت الحارقة وتبدأ في الدق بايقاع يدفع للتمايل مع الايقاع وهي تتفنن في الانتقال بين الايقاع الحاد والغليظ والناعم. لينتقل «الفندق» من ايد جدتى الى ساعد الخاله ست البنات، فما أن أمسكت ب «المدق» حتى أنشدت التجاعيد واستحالت الى عضلات تسحق ما جثم في قاع «الفندك» من بهارات، دق، دق ددق، دق، ضربة، إثنين، فواحدة اخري دق، دق ددق، دق، وواصلت الخالة ست البنات إدارة ايقاع الويكة والمدق والفندك، بينما كانت تتحدث إلى، فقالت « احنا بنعمل نظام النفير ده لسحن البهارات والبن مع قرب شهر رمضان اوفى المناسبات، وهو فرصة للونسة واللمة واعادة الايام الجميلة، وعن الايقاعات الصادرة من الفندك قالت: ما ان تبدأ احدانا في السحن والدق حتى يشع جو الحماس الموسيقى بالغناء والصفقة والهمهمات وصوت طرعقة فناجين القهوة حتى لا نشعر بالتعب والفتور من جهد الدق، واخذت الخالة ست البنات تَضْرُب اطراف الفُنْدُكْ بالمَدَّق وترفعوا وتنزلوا من الارض بحركة ايقاعية كأنها تضرب على دلوكة أو طبْل بطريقةٍ معدومة المثيل محدثة ايقاعات متباينة وهي تقول: «كثير من الناس بقت تودي البهارات للسحانة، لكننا نفضل الدق والفندك لانه طعمو براه وكفاية علينا اللمة دي». ويتعالى صوت الإيقاع الحنين الذي يصدر من الدق في الفندك لتخفق على دقاته قلوب كل من يسمعه ورائحة الكسبرة المحمصة والشمار والقرفة والبن المعتق تداعب الانوف غير عابئين لأن طبل الاذن يسترق السمع على صوت المدق«دُم .دُم دُم تك تك دُم تك» بايقاعات تحثك على عدم مقاومة احساس الرقص في الدواخل، فيشكل صغار العيلة حلقة دائرية حول جلسة الحبوبات والفندك وهن يرددون حسب توجيهات حبوبة «أدونا فندقكم ندق ونديكم».