اعتذرت بريطانيا رسمياً الأسبوع الماضي لكينيا عن الفظائع التي ارتكبها البريطانيون في حق ثوار الماو ماو الذين هبوا قبل أكثر من خمسين سنة إبان الاستعمار البريطاني لكينيا، وقالت على لسان وزير خارجيتها الأصلع البليغ صاحب الصوت الجهير القوي وليام هيج، إن بريطانيا تأسف لما كان، وتقدم مبلغ ثلاثين مليون جنيه استرليني تعويضاً للمتضررين ممن قتل أو عذب او فقأوا خصيتيه أو سجنوه أو شردوه، وقالوا إن عدد المستحقين لهذا التعويض يزيد قليلاً عن خمسمائة كيني مما يجعل نصيب الواحد منهم حوالى الثلاثة آلاف جنيه استرليني، وهي لمن ذهب إلى كينيا وتعامل بالشلن الكيني تعتبر ثروة عمر لكل من نالها. وهي نتيجة مفرحة جاءت بعد نزاع قانوني طويل في بريطانيا، بعد أن فتح بعض الكينيين بلاغات وساندهم بعض القانونيين البريطانيين، واستمر النزاع القانوني لسنوات طويلة حتى توج أخيراً بهذه النتيجة التي قال بعض الكينيين إنها أعادت إليهم الاعتبار، وإن احتج بعضهم على أن التعويض زهيد وأنهم كانوا يتوقعون أكثر من ذلك بكثير. جميل أن تثوب بعض الحكومات الغربية الاستعمارية إلى رشدها وتتملص من بعض إساءاتها الجارحة والكبيرة لبعض الشعوب وتعتذر، مما يجعل ذلك متوائماً مع نظمها الليبرالية والديمقراطية التي تعتمدها والتي حقوق الانسان من أوجب واجباتها. ويذكر أن إيطاليا قد اعتذرت لليبيا، وأن الجزائر طالبت فرنسا بالاعتذار، وجرى شد وجذب شديد لا أدري إلى أي شيء قد انتهى، وقبل سنوات كانوا قد وضعوا برنامجاً ضخماً في ال «بي. بي. سي» سموه «طريق العبيد»، وكان الهدف منه كشف الفظائع التي تعرض لها ملايين السود من إفريقيا وهم يرحلون ليباعوا في أمريكا وأوروبا رقيقاً، وأن البرنامج كان يهدف إلى جانب إلقاء الضوء على تلك الفظائع إلى الاعتذار والتعويض ولكن فجأة وبدون مقدمات «ابتلعت» ال «بي. بي. سي» ذلك البرنامج الطموح، فإذا به وكما يقول اخواننا المصريون «فص ملح وداب» ولم يجرؤ أحد أن يسأل عنه أو أن يقص دربه!! أقول إن اعتذار بريطانيا هذا اعتذار جميل، وهو لفتة عادلة بلا شك، ولكن بريطانيا تحتاج إلى أن تعتذر لغير الكينيين لناس آخرين كثر أبرزهم الفلسطينيون الذين أعطت بلادهم التي كانت تستعمرها من خلال وعد بيلفور لليهود، مما مهد لقيام اسرائيل وأدخل الفلسطينيين في دوامة شقاء لا يعلم مدها إلا الله...أليس الفلسطينيون أولى بالاعتذار والتعويض من الماو ماو؟ ثم العراقيون الذين اشتركت بريطانيا مع أمريكا وإيطاليا وأسبانيا ودول أخرى في احتلال بلادهم وتدميرها بسبب ما قالوا إنه وجود أسلحة دمار شامل تبين لهم قبل غيرهم أنها لم تكن موجودة، وأعلنوا صراحة أنهم لم يجدوها، وبسبب هذا الاحتلال والحرب غير العادلة تدمرت العراق وقتل شعبها وشرد، ودخلت في صراع طائفي لا يدرى أحد نهايته ومداه، وإذا سأل أحد مسؤولاً بريطانيا فإنه لا يزيد على أن يقول إن العراق أفضل على كل حال بدون صدام حسين!! عموماً.. هل يحتاج السودان إلى اعتذار من بريطانيا على غزوها له في عام 1898م وقتلها أكثر من عشرة آلاف سوداني في ثلاث ساعات، واستباحتها لأم درمان التى كانت رائحة الجيف الآدمية فيها تمنع السكان من العيش لشهور؟ أقول وهذه وجهة نظري الخاصة إن بريطانيا لا تحتاج إلى أن تعتذر للسودان فقد اعتذرت بما فيه الكفاية، وذلك لما أقامت كلية غردون التي جعلتها نواة للتعليم الحديث في السودان عام1902م، ثم مدها للسكة حديد «وإن كان الهدف الأصلي منها هو ايصال الجنود والامداد لمعركة كرري» مما جعلها أداة في غاية الكفاءة لنقل السكان والبضائع على شكل شاسع وفعال، مما خلق نهضة اجتماعية واقتصادية كبرى خاصة بعد أن طورت بريطانيا سكة حديد السودان ونظمتها وهيكلتها على الشكل الذي يعرفه الجميع. ثم إن بريطانيا أقامت خدمة مدنية وإدارة رصينة في السودان تعتبر من أفضل الخدمات المدنية والإدارات في أفريقيا والشرق الأوسط والعالم الثالث كله.. وأخيراً نفذت بريطانيا بكفاءة هندسية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة أسطورة مشروع الجزيرة، وهو مشروع تروى فيه ملايين الأفدنة بالري الانسيابي، مما جعل السودان يودع المجاعات نهائياً على الأقل مدة وجود الانجليز ومدة إدارتهم الممتازة للمشروع لأن المجاعات كانت تجتاح السودان بسبب اعتماده على الري المطري غير المأمون، وقد كانت أشهر تلك المجاعات هي مجاعة «سنة ستة» إبان حكم السيد الخليفة عبد الله التعايشي. إذن فإن السودان لا بد أن يعتذر إليه أحد غير بريطانيا، بسبب ما آل إليه حاله في الوقت الراهن. وأعتقد أن التدني المريع الذى يكاد يكون متعمداً فى كل شيء منذ انقلاب مايو عام 1969وإلى الآن، يلزم الصفوة التى حكمت مدة الخمس وأربعين سنة الماضية باعتذار مستحق للشعب السودانى، ولا ينبغي بل ولا يجوز أن تكون بريطانيا أحن على الماو ماو من الصفوة السودانية على شعبها وأهلها.