لولا علمي اليقيني بأن السنسرة الداخلية بالصحيفة لن تسمح بتمريره، لاستعرت وصف الدكتور منصور خالد لبعض (الكتبة) في الفترة الانتقالية بعد انتفاضة أبريل 1985 في كتابه (الفجر الكاذب)، وقد التصق هذا الوصف بذاكرتي منذ أن التهمت الكتاب أول أيام صدوره، وكان ذلك قبل ربع قرن من الزمان، وقد عبت يومها بيني وبين نفسي على الدكتور منصور خالد استخدامه لهذا الوصف الذي يجبرك على أن تنفجر ضاحكاً فور قراءتك له.. لكني اليوم ويا لمفارقات الزمن لا أجد وصفاً لحال البعض من أصحاب الزوايا والتكايا أدق وأبلغ من ذلك الوصف الذي تجرأ به الدكتور منصور خالد، فكل يوم نفاجأ من هؤلاء بعبارات لا تملك حيالها إلا وأن تسارع إلى تعطيل حاسة الشم عندك لبعض الوقت ريثما يمر (تيار) الهواء الفاسد. آخر ما قرأته في هذا الصدد كان تعليقاً من إحداهن على ما ورد في ويكيليكس بسند ضعيف على لسان أحد المسؤولين حول قضية التطبيع مع واشنطون.. حيث قالت (الحكومة تعلم أن الشعب السوداني ليست لديه مشكلة مع التطبيع إن كان مع إسرائيل أو الولاياتالمتحدة).. وأجد نفسي أعتذر للقراء لإعادة هذه الكلمات عليهم مرة أخرى وإجبارهم على كتم أنفاسهم.. ولا أدري أي شعب سوداني هذا الذي ليست لديه مشكلة في التطبيع مع إسرائيل؟!.. لعمرك أن نتنياهو وليبر مان وكل الطاقم المتنفذ في تل أبيب ومن قبلهم وكلاؤهم هنا في الخرطوم قد استلقوا على أقفيتهم من الضحك من هذا الإدعاء (المفرط في التفاؤل)، ومن هذه الطريقة الفجة و(الشترا) في إطلاق حملة للترويج لقضية التطبيع مع الكيان الصهيوني، والذي أرى بعض علاماتها وإرهاصاتها تتبدى وتتجسد وتتضح ملامحها يوماً بعد يوم. مسكين هذا الشعب السوداني الذي أصبحت ساحته مستباحة لكل من هب ودب ينصب نفسه وكيلاً عنه ومتحدثاً رسمياً باسمه، فيقول على لسانه ما يريد أن يقول، فعنده صك غفران جاهز من الشعب يغفر له كل ما يفتريه في حقه من افتراءات وما ينسبه إليه من أكاذيب دون أن تطرف له عين، فالشعب السوداني وعلى مر الدهور والأجيال، وعلى مر تاريخه منذ إطلاق وزير الخارجية البريطاني الأسبق (آرثر جيمس بيلفور) لوعده الكارثة- والذي عرف عالمياً بوعد من لا يملك لمن لا يستحق- وحتى يوم الله هذا لم يتزحزح عن موقفه الرافض لأي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل. فتاريخ السودانيين مع الصهيونية معروف، فالعلاقة بينهما لم تكن في يوم من الأيام حميمة، بل كانت وما تزال شديدة السوء، صحيح أن اليهود كانوا يتمتعون بمعاملة طيبة وكانت لهم علاقات اجتماعية حميمة مع السودانيين قبل أن يهاجروا من السودان إلى مهاجرهم التي اختاروها، ولم تكن من الأسباب التي أدت إلى خروجهم من السودان معاملة سيئة أو تضييق عليهم، هذا صحيح ومفهوم في سياق الأخلاق والتقاليد السودانية، ولكن حينما نشأت الحركة الصهيونية التي طرحت منطقاً أعوج، وتبنت نهجاً إجرامياً واستعمارياً بإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين تحت شعار كاذب وزائف صممه بيلفور يقول (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، حينذاك هب السودانيون رافضين لذلك الظلم والاغتصاب لأرض الفلسطينيين ولوطنهم، وازداد هذا الرفض وترسخ بعد المذابح التي ارتكبتها فرق الموت الصهيونية المتطرفة في حق الفلسطينيين، لذلك لم يكن غريباً أن يندفع المتطوعون من الشعب السوداني إلى فلسطين للقتال جنباً إلى جنب مع إخوتهم الفلسطينيين في حرب فلسطين في عام 1948، ثم في حرب أكتوبر1973 ورفضهم لكامب ديفيد ولكل أشكال التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، والجواز السوداني هو الوحيد الذي في نسخته وفي خانة الأقطار التي يصلح لها الجواز عبارة (كل الأقطار ما عدا إسرائيل).. وقد باءت كل محاولات إسرائيل لاستئناس وترويض المارد السوداني بالفشل والخيبة، وكتاب (أمراء الموساد) وردت فيه جوانب لهذا الفشل، والبقع السوداء الوحيدة الموثقة التي شوهت صفحة الرفض السوداني الناصعة للاتصال بإسرائيل كان أبطالها نميري وحركات التمرد الجنوبية من لدن أنانيا (1) حتى الحركة الشعبية لتحرير السودان، وحركات التمرد المسلحة في دارفور، وقد تمثلت صور اتصالات نميري بإسرائيل في لقاءاته بكل من وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون لبحث ترحيل اليهود الفلاشا عبر السودان إلى إسرائيل، وبمناحيم بيجين على هامش مراسم تشييع جنازة الرئيس المصري أنور السادات في أكتوبر 1981 بالقاهرة، ثم ما تم من اتفاق بين نظام نميري وكل من واشنطون وتل أبيب على ترحيل اليهود الأثيوبيين (الفلاشا) إلى إسرائيل بتمويل أمريكي ، حيث نفذ جهاز الموساد بالتنسيق مع السي آي إيه والمخابرات السودانية عمليتي (موسى) و(سبأ) الشهيرتين، أما اتصالات إسرائيل بحركات التمرد الجنوبية فهي منشورة ومعروفة وتوجت مؤخراً بفصل الجنوب وتطبيع العلاقات بين الدولتين، وعلاقات حركات تمرد دارفور بإسرائيل هي الأخرى معلومة وكشف النقاب عنها زعماء هذه الحركات بأنفسهم وما يزالون يحتفظون بهذه العلاقات من خلال المال والسلاح والتدريب العسكري والاستخباراتي وتبادل المعلومات والتجسس. الشاهد في كل هذا الذي سقناه أن مسألة التطبيع مع إسرائيل كانت ولا تزال تعتبر (خطاً أحمر) بالنسبة للشعب السوداني لا يمكن أن يقبل أية مزايدة عليها أو يسمح لكائن من كان أن يقدمها قرباناً يتزلف به إلى كائن من كان، وأن من قاموا بالاتصال مع إسرائيل ومواددتها هم أصلاً كانوا إما معزولين من الشعب (نميري ونظامه)، وإما أنهم متمردون يائسون منبوذون من قبل الشعب السوداني. إن الشعب السوداني لن تكون لديه مشكلة في التطبيع مع إسرائيل في حالة واحدة فقط، وهي أن تعيد هذه الإسرائيل الحق العربي إلى أهله وتعترف بدولة فلسطين والقدس عاصمة لها، وأن تكف بأسها عن الفلسطينيين وتعترف بارتكابها جرائم وفظائع في حقهم وأن يقدم مرتكبو هذه الجرائم للعدالة الدولية ويتم تعويض أصحاب الأرض التي اغتصبتها منهم وتفكيك المستوطنات و.. و.. و.. من قوائم المطالب والحقوق الفلسطينية مما لا تسمح هذه المساحة لحصرها، ثم يكون الحديث بعدها عن التطبيع.