امتلأت الحافلة عن آخرها ولم يبق أمامي إلا كراسي النص، فجلست في أول واحد وأنا داخل من باب الحافلة، فإذا بالكمساري يصححني قائلاً في ضجر: قفَل وراء ياحاج! كراسي «النص» يسمونها «بيت الايجار» لأن الجالس فيها يكون في حالة حركة مستمرة كلما دخل داخل أو خرج خارج، وصار تقليداً حميداً يرعاه معظم الناس وهو أنهم غالباً ما يطلبون من الجالس على كرسي «النص» إن كان رجلاً كبيراً أو امرأة أن يتحول إلى الكرسي الثابت بينما يرضى المتنازل عن الكرسي الثابت وهو في الغالب شاب أن يجلس مكان المتفضل عليه، خاصة إذا لاحظ عليه عناءً من تكرار القيام والجلوس. تتحول الحافلة عندما يأتي الكمساري لاستلام المال إلى مؤسسة مالية طوعية، ذلك أن الجميع يتعاونون في استلام القروش من الجالسين خلفهم ويسلمونها إلى الذين أمامهم الذين يسلمونها إلى الكمساري، ثم يعود الكمساري بالباقي معطياً إياه لمن يليه مباشرة ليعطيه لمن وراءه حتى يصل الباقي إلى صاحبه في حركة طوعية خالية تقريباً من الكلام ويكون الاستفهام فيها بالإشارة في أغلب الأحيان، والغريب أن الباقي يصل إلى صاحبه دون أن يلتفت الذي استلمه من الكمساري، ودون ان يلتفت من استلمه ممن استلمه من الكمساري، إلى أن يصل في حركة سلسة وبأمانة إلى مستحقه!! لاحظت أيضاً أن الشباب يوافقون إذا امتلأت الحافلة على الوقوف في الباب تاركين الكراسي لغيرهم، كما لاحظت أن معظمهم يتحولون إلى الكراسي الأضيق والأحرج في الوصول إليها لمن يرون أنهم أبطأ أو أثقل حركة كالنساء وكبار السن، والكراسي الضيقة الحرجة هي التي في الجزء الأعلى من الحافلة وهي مقصورة تتضمن كرسي السائق وكرسيين موازيين له وكرسي في الصف الذي يليه على يمينه وآخر على شمال ذلك وهو الأضيق والأنكى، وقد لا يكون فيه مسند للظهر، وقد يضيق مكانه فلا يجد الجالس عليه مندوحة من الاتجاه في جلوسه ووجهه إلى كل ركاب الحافلة، ولهذا تعارفوا على تسميته ب «التلفزيون»، أما الكرسي الذي يكون وراء كرسي السائق مباشرة من الجهة اليسرى فاسمه عندهم «كرسي الشهيد»، لأن الحافلة إذا حدث فيها حادث غالباً ما يموت الجالس عليه! وأعجبت والناس يتدافعون على ركوب الحافلة لندرة الحافلات في خطها بشاب يدخل إلى الكنبة الخلفية من الحافلة بعد أن فتح زجاج النافذة المقابل وركز إحدى رجليه على الصدام الخلفي للحافلة وأدخل رجله الأخرى ومعظم جسده من خلال النافذة، ثم جاء برجله الأخرى واستقر في أحسن مكان في الكنبة الخلفية قبل أن يدهمه الناس المتسابقون على الدخول من الباب. وأسجل بسرور غامر تطوراً ملحوظاً في سلوك الكماسرة من العدوانية والشراسة وابتدار الشجار الذي كان ديدنهم إلى عهد قريب إلى روح السلام والبشاشة، كما لاحظت أنهم أصبحوا يميلون في الغالب إلى شيئين: الصمت والابتسام.. هل ذلك عائد إلى أن الوظيفة أصبح معظم شاغليها من الشباب المتعلم. السائق في الحافلة إذا نشأ شجار إما بين الركاب أو مع الكمساري يصير بمثابة قاضي الاستئناف.. فهو لا يتدخل في أكثر الأحيان، ولكن إذا تدخل فغالباً ما يكون ما يقضي به هو الحل الأخير الذي يقبله الناس في الغالب.. لكن بعض السائقين قد يصير الذراع العسكرية القصوى إذا وقع اعتداء عنيف على الكمساري، وقد رأيت بعضهم يخرج من تحت كرسي القيادة.. سيخة أو عصا غليظة!! أقرر وأنا داخل على الحافلة ألا اتكلم أبداً ولكنني كنت أتمتع بأمرين وأنا صامت وهما: المحادثات التليفونية الجهيرة التي تحتوي دائماً على مادة أنس وامتاع لا توصف والنقاشات في الشؤون العامة والشؤون الدينية والمسائل الاجتماعية والتي يتصدى لها بعض «الخبراء» من العوام في الحافلة بشكل يثير الدهشة والإشفاق.. هذه هي الحياة.. وحرك يا حاج قدام!!