: نشرت صحيفة الخرطوم الغراء بتاريخ الخميس 4/7/2013م وعلى صفحة الرأي قصيدة للسفير عبد الله حمد الأزرق بعنوان (تحية إلى أمير كعبة المضيوم) كتبها بالفصحى واستهلها بثلاثة أبياتٍ استقطعها من النص العربي القديم: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً، وهل دار سلمى بالجواء تبدلت، خليليَّ عوجا بارك الله فيكما. في البيت الأول (المطلع) يتمنى الشاعر أن يبيت ليلة ب»دوحة العز» كما تمنى قبله جميل بثينة أن يبيت ليلة ب»وادي القرى»: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بوادي القرى إني إذنْ لسعيدُ وكما تمنى عبد الله الطيب أن يبيت ليلةً ب»كثبان داره»: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بكثبان داري والأحبةُ أحوالي لكن يبدو أن البيتين اللذين تلوا المطلع لم يكن لهما رابطٌ موضوعي بالقصيدة سوى أنهما اقتسرا اقتساراً وجدانياً أراد منه الشاعر الاقتيات على ماضي القصيدة العربية لكي يكون وقوداً لتسخين قصيدته المادحة. فالإشارة إلى (سلمى) فيها رمزية استوحاها الشاعر من الشعر الجاهلي حيث كانت مناداة (سلمى) أصيلةً أو من شعر المتصوفة حيث أن مناداتها رمزية. وقد جرى على سنن هؤلاء شعراء الفصحى المتأخرون جرياً تقليدياً، وهو تقليدٌ استلهامي لا بأس به إذا أتى في غير ما تكلف، ولعلَّ في شعر محمد سعيد العباسي ما يعكس هذه السنة المأثورة، فانظر إلى «سلمى» العباسي: قِفُوا في رباً كانتْ تحلُّ بها سلمى فإني أرى هجرانَ تلك الربا ظلما أسائلُ رسمَ الدارِ أين ترحَّلتْ وهل أفصحتْ يوماً لسائلِها العجما؟ وكذلك نداء الخليلين الذي كان شائعاً في القصيدة العربية القديمة، حيث يتخيلهما الشاعر تخيلاً ويناديهما: تخيرتُ من نعمانَ عودَ أراكةٍ لهندٍ فمن هذا يبلِّغُهُ هندا؟ خليليَّ عوجا بارك اللهُ فيكما وإن لم تكنْ هندٌ لأرضكما قصدا وإلى يومنا هذا هناك في شعرنا الشعبي من ينادي على صاحبه الذي يضعه في مخيلته ويأمره أن يذهب إلى فلان أو إلى فلانة ويخبرهما بما يجيش في داخله، وحتى إذا لم يسعفه صاحبه فإنه ينادي على الطير ليبلغ له رسالته. لكن المناداة للخليلين في قصيدة السفير الأزرق لم يكن لها من داعٍ بهذه الطريقة المرتبكة حتى وإن أراد أن يُري خليليه اعتداده بالنفس وكبرياءه واعتذاره المسبق عن مدح الرجال، فهي لا تعدو أن تكون استيحاءاتٍ مرتجلة شأنها شأن السؤال عن سلمى التي سكنت دار عبلة بالجواء: وهل دارُ سلمى بالجِواءِ تبدلتْ أم الدارُ سلمى بالجِواءِ كما هيا ولأن طابع البيت طابعٌ رمزي فقد كان أجدر بالشاعر أن يقول: وهل دارُ سلمى بالخليجِ تبدلتْ أم الدارُ سلمى بالخليجِ كما هيا إذن لأغنانا عن «الجواء» التي لا يعرف أحدٌ مكانها اليوم بل ولو أن عنترة بُعث حياً لما عرف موضعها. ولمَّا كانت سلمى في الشعر القديم أنثى أصيلة نجد شعراء التصوف رمزوا بها للذات الإلهية ليهيموا بها على طريقتهم (لمعتْ أنوارُ سلمى لك من خلفِ الستائر). القصيدة في عمومها جيدة السبك وفيها ملكة شعرية قوية استطاع بها شاعرها أن يطير إلى دوحة ممدوحه وفضاء جزيرته: أولئك أقوامٌ صِباحٌ أعزَّة مآثرُهمْ أربتْ وفاقتْ عداديا و»دوحتُهم» ضاءتْ من العزِّ والبها وبالعلم والعرفانِ تجلي معانيا «جزيرتُهم» قالتْ وطالتْ وأبدعتْ فتأتيك بالأنباءِ ما كان قاصيا هذا في إشارةٍ إلى مدينة «الدوحة» و»قناة الجزيرة الفضائية»، وهي أبياتٌ حالفها التوفيق كما حالف بقية القصيدة ذات المفردات الجزلة والمعاني السمحة، فالقصيدة من بحر الطويل الثاني الذي يطرأ زحاف «القبض» على تفعيلاته ويُميِّز الضربَ تحديداً «أي التفعيلة الأخيرة»، والقبض هو حذف الساكن الخامس من تفعيلتي هذا البحر «فَعُولُنْ، مَفَاعِيلُنْ» فتصبح أيٌّ منهما عندما يطرأ القبض «فعولُ، مَفاعِلن» على التوالي، وإلا لكانت كلتاهما سليمتين. وللمصادفة أن الأبيات الثلاثة التي ذكرناها في بداية القصيدة والتي وردت فيها «ألا ليت شعري...» تأتي مثلاً لأضْرُب بحر الطويل الثلاثة «الأول والثاني والثالث»، فضرب بحر الطويل الأول هو «مفاعيلن» والثاني «مفاعلن» والثالث «فعولن». ويقال في ضرب الأول «سليم» وفي ضرب الثاني «مقبوض» وفي ضرب الثالث «محذوف السبب الخفيف»: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بكثبان داري والأحبةُ أحوالي (بحر الطويل الأول) «عبد الله الطيب» ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بدوحة عزٍّ كي أروِّي فؤاديا (بحر الطويل الثاني) «عبد الله حمد الأزرق» ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بوادي القرى إني إذنْ لسعيدُ (بحر الطويل الثالث) «جميل بثينة» ومن بعدُ نأتي على بعض المآخذ العَرُوضِيَّة على القصيدة، وهي في خمسة أبيات من مجموع أبيات القصيدة البالغة 39 بيتاً، يقول: ويا صاحبيْ إني عزيزٌ مكرَّمٌ وإني أبيٌّ وصعبٌ قياديا البيت مكسور في التفعيلة الثانية من العجز «مفاعيلن» التي أتت «مفاعي» بحذف السبب الخفيف «لُنْ»، فتفعيلات البيت هي: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن، ولكن الشاعر أتى بها في البيت المذكور هكذا: فعولن مفاعي فعولن مفاعلن، وإذا سمح لي الشاعر لأوزن التفعيلة لقلتُ: وإني لمِقدامٌ وصعبٌ قياديا. أما البيت الثاني المكسور يقول: ولكنْ للكرام الغرِّ من آل مسندٍ وآل ثاني قد ثنيتُ عنانيا كلا صدر البيت وعجزه مكسوران رغم جمالهما فصدر البيت مكسور في التفعيلة الثانية أيضاً «مفاعيلن» التي أضاف إليها سبباً خفيفاً «متحرك وساكن» هما اللامان في كلمة «للكرام»، وإذا حُذفت اللامان لصلُح الوزن ولكن صدر البيت سيفقد معناه لأنه مرتبط بعجز البيت وهو معطوفٌ عليه حيث يصبح هكذا: ولكنْ كرام الغرِّ من آل مسندٍ وآل ثاني قد ثنيتُ عنانيا. أما عجز البيت فكُسر البيت في التفعيلة الثانية أيضاً «مفاعيلن» حيث حذف المتحرك الأول في مفاعيلن «الميم» فأصبحت «فاعيلن»، وكان يمكن له أن يقول إصحاحاً لوزن البيت: ولكنْ لأجلِ الغرِّ من آل مسندٍ وأحفادِ ثاني قد ثنيتُ عنانيا البيت الثالث المكسور هو: وإن ضاقت على الحرِّ فجةٌ من الأرض يلفيهم حماةً وحاميا التفعيلة الأولى «فعولن» مفقودة تماماً في صدر البيت، فالشاعر بدأ البيت هكذا: مفاعيلن فعولن مفاعلن، وكان يمكن له أن يقول مثلاً: تراهم إذا ضاقت على الحرِّ فجةٌ من الأرض شجعاناً حماةً وحاميا البيت الرابع هو: إذا فات فيهم سيِّدٌ قام سيِّدٌ إلى الخير لم يَلْفَهُ الناس وانيا البيت مكسور في التفعيلة الثانية من العجز «مفاعيلن»، ففي الوقت الذي أرضى فيه الشاعر سيبويه لكنه أغضب الفراهيدي، فهو جَزَمَ الفعل «يَلفى» بحذف حرف العلة «لم يَلْفَهُ» ولكن سقط السبب الخفيف الأخير من «مفاعيلن» مما كسر البيت وأصبحت مفاعيلن هي «مفاعي». ولو أردنا وزن البيت عروضياً لقلنا مثلاً: إلى الخير لا يُلفى لدى الناس وانيا. أما البيت الخامس: أقولُ لنفسي إذ رأتْ صدقَ صبوتي جزى الله حَمَدَاً خيرَ ما كان جازيا التفعيلة الثانية في عجز البيت «مفاعيلن» أضرَّ بها تحريك حرف الميم بالفتحة في الاسم العلم «حَمَد» لأن «حَمَد» هو في الأصل «حَمْد» بتسكين الميم ولكن تواطأ الناس على نطقه «حَمَدْ» بتحريك الميم، فلو أنه جاء في البيت بنطقه الأصل بتسكين الميم لما أصبح البيت مكسوراً ولكفى الله العروضيين شرَّ القتال. والتفعيلة هنا تبدأ من هاء اسم الجلالة حتى الياء في كلمة «خير» هكذا: «هُ حَمْدَنْ خَيْ»، أي: متحرك متحرك ساكن متحرك ساكن متحرك ساكن، هكذا: . . . بقي لنا أن نشير في هذه القصيدة المادحة إلى خطأٍ لغويٍّ واحد وخطأٍ نحويٍّ واحد، الأول في عنوان القصيدة نفسه (تحية إلى أمير كعبة المضيوم)، فمفردة «المضيوم» بمعنى المظلوم غير فصيحة وهي تحريف سوداني للكلمة الفصحى «المَضِيم أو المُستَضام». إذن صواب العنوان هو (تحية إلى أمير كعبة المَضِيم) أو (تحية إلى أمير كعبة المُستضام)، كما يجب أن توضع كلمة «المظلوم» في الأبيات التي وردت فيها كلمة «المضيوم» لكي تصحَّ لغةً وتستقيم وزناً. أما الخطأ النحوي فقد ورد في البيت: يحثُّ مطاياي شفيفاً من الهوى وأزجي من الشعر الرصين قوافيا فهنا كلمة «شفيف» موقعها من الإعراب «فاعل»، فالصواب «يحث مطاياي شفيفٌ من الهوى»، وربما كانت خطأً عارضاً لم يسترع انتباه الشاعر. وختاماً فهذه إشاراتٌ لا بد من التنويه بها لفائدة الشاعر والقارئ معاً في هذه القصيدة جيِّدة السبك والحبك.