صدر في ثوب قشيب العدد «55» من مجلة « الانساني » التي تصدر كل ثلاثة شهور عن اللجنة الدولية للصليب الاحمر وحوت المجلة ملفا خاصا عن « ابطال في الظل » ويحكي الملف عن قصص اولئك الناس الذين يقدمون المساعدة للنازحين، ووصفت المجلة هؤلاء المستقبلين المستجيبين الاوائل لاي أزمة بانهم ابطال في الظل ، وسردت المجلة قصص هؤلاء الابطال من لبنان والعراق والاردن وتونس والسودان وشارك في الملف الانساني الزميل الصحفي النشط عبد الوهاب جمعة وسرد قصة ابطال قوز السلام بمدينة كوستي السودانية، نرويها اليوم للفائدة العامة . جدير بالذكر ان اللجنة الدولية للصليب الاحمر منظمة مستقلة محايدة انشئت في عام 1863 مهمتها انسانية بحتة تتمثل في حماية ارواح ضحايا الحرب وكرامتهم وتقديم المساعدة لهم وتقوم اللجنة بتوجيه وتنسيق انشطة الاغاثة التي تنفذها الحركة الدولية للصليب والهلال الاحمر وتعمل على ترويج وتدعيم القانون والمبادئ الانسانية العالمية. كوستي : عبد الوهاب جمعة قوز السلام : المدينة الفاتحة قلبها للنازحين قبل ان يسمع العالم بمآسي من خلال الاعلام وقبل ان تصلهم مساعدات المنظمات الانسانية منظمات الغوث الانساني فان ثمة من يقدم لهم الدعم .. انهم في الحقيقة العائلات القاطنة في المناطق التي نزح اليها النازحون .. انهم الابطال المنسيون . مدينة كوستي هى واحدة من المدن الحديثة التي نشأت في اوائل القرن الماضي في السودان ، وتكنى « بسرة السودان » لموقعها الجغرافي والاستراتيجي ، وتشكل ملتقى للطرق بين وسط وجنوب وغرب البلاد ، وبالمدينة مقر رئاسة الاقليم الجنوبي لهيئة السكة حديد التي يمتد خطها الى غرب البلاد حتى مدينة نيالا ومدينة واو بدولة جنوب السودان الحديثة، كما يوجد بها رئاسة هيئة النقل النهري التي كانت تمثل عصب حركة النقل التجاري بين شمال البلاد وجنوبها قبل الانفصال في عام 2010 م. وتعتبر مدينة كوستي مكانا للاستقرار الآمن لكل قبائل السودان ، يقول مصطفى احد سكان المدينة « لاتعرف كوستي الانتماء الجهوي او التعصب القبلي ولا يوجد بها حي واحد يوحي بدلالات جهوية او عنصرية او قبلية ، فالمدينة تمثل بوتقة انصهار اجتماعي للجميع ، ويذكر بحر ادريس الذي يقيم بالمدينة منذ 1984 بعد موجة الجفاف التي ضربت البلاد خصوصا في اقليمي كردفان ودارفور « المدينة منحتني الامل في بدء حياة جديدة فحياتي تغيرت في بضع سنين من نازح الى مالك مشروع زراعي « ، ويسرد معظم النازحين الى مدينة كوستي ان قصة بداية حياتهم الجديدة بدأت في حي «قوز السلام » احد اشهر احياء المدينة والذي يقع جنوبها الغربي قوز السلام .. دنيا النازحين الجديدة على مساحة واسعة هى مزيج بين الارض الطينية الغروية التي تمنع تغلغل الماء الى باطن الارض والتلال الرملية التي تعرف محليا ب« القيزان » ذات المقدرة على امتصاص الماء يمتد حي قوز السلام بعيدا عن صخب المدينة وقريبا من سوقها الكبير وخدماتها ، اشتهرت هذه المنطقة وسط نازحي الجنوب والوافدين من دارفور وكردفان بانها مظلة الامل ونقطة الانطلاق للنازحين ببدء حياة جديدة . تذكرنا نشأة الحي تسرد قصة النزوح وهشاشة الحياة بالبلاد فقد استقبلت ارض قوز السلام نازحي اطول حرب اهلية بافريقيا عندما وفد اليها اهل الجنوب بمختلف اثنياتهم وعرف المكان باسم « الكمبو » اي المعسكر الذي يماثل معسكرات ايواء العمال في المناطق الزراعية في موسم الخريف. وبعد توقيع اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان التي افضت الى استفتاء الوحدة او الانفصال عن الشمال ليتوج باعلان انفصال دولة جنوب السودان غادر النازحون الجنوبيون الى دولتهم الوليدة ناشدين السلام والاستقرار في ارض الاجداد ، بيد ان جذوة قوز السلام لم تنطفئ ولازالت منارته تهدي نازحين آخرين ، كان آخرهم الشماليون المقيمون في الجنوب الذين نزحوامن هناك واستقروا في نفس البيوت التي قطن بها اخوتهم الجنوبيون . لكل قصة بداية ونهاية .. الا منطقة قوز السلام فهى تمضي من بداية الى نهاية لتبدأ مرة اخرى من جديد كما في قصة الجبار اطلس التي ترويها الميثولوجيا الاغريقية.. فقد كتب على قوز السلام ان يظل المأوي الابدي للنازحين ، فعندما غادر معظم النازحين الجنوبيين ويمموا جهة دولتهم الجديدة قنط سكان قوز السلام من حياتهم واصابهم مس من اليأس بان تلك هى نهاية الحي الذي آوى جميع النازحين لاسيما ان نصف سكان المنطقة هم نازحو الجنوب ، بيد ان القدر لعب دوره فقد اضطر الالاف من الشماليين المقيمين بالجنوب الى مغادرته بعد اعلان ميلاد الدولة الجديدة في 2011 بعد الاحداث الدامية التي وقعت بين قوات الحكومة السودانية وجنوب السودان. تضميد الجراح في ظل التوترات الدائمة اضطر الاف المدنيين من مناطق الكويك الجنوبية وود دكونا وكاكا والغبشة والبشارة وام جلالة الى النزوح نحو الشمال ولم يجد النازحون مكانا آمنا ومستقرا سوى مدينة كوستى التي عرفت بقدرتها الكبيرة على استقبال واستضافة القادمين الجدد .. ولم يكن هناك مكان يسعهم سوى قوز السلام . داخل الحي الرحيم لم يجد النازحون الشماليون مكانا يضمد جراحهم الا المساكن التي اوت من قبل النازحين الجنوبيين . يقول بحر الدين حسب الله النازح من منطقة الكويك الجنوبية « لم نجد مكانا ارحب من قوز السلام فسكانها كانوا في استقبالنا مرحبين بنا « ويضيف حسب الله « وجدنا كل التعاون والتقدير والاحترام وحسن الضيافة التي وجدناها عند مواطني المنطقة كان لها اثر كبير في التخفيف من وطأة المعاناة الناجمة من مغادرتنا لمناطقنا « ويشرح حسب الله قائلا « كان سكان قوز السلام يقدمون لنا الطعام طيلة الاسابيع الاولى من وصولنا « واطرق حسب الله برأسه نحو الارض قليلا وكأنه يستذكر مأثر القوم الذين اكرموه قبل ان يستكمل حديثه : « عائلات عدة استضيفت بمنازل مواطني القوز الى ان تدبروا امور حياتهم التي وصفها بانها تحسنت كثيرا بفضل جهود اهالي الحي فالاحساس بالامان الذي شعرنا به كان له الاثر الكبير في تعافينا من صدمة النزوح وتقبلنا لحياتنا الجديدة حيث بدأنا العمل بالاجر اليومي في المناطق الزراعية القريبة من قوز السلام واوضح حسب الله ان مواطني القوز ساهموا في سرعة اندماج النازحين بواقع الحياة الجديدة مشيرا الى ان صديقه حسن الريح كان له الفضل الكبير في تجاوز محنته . الايثار .. في زمن المسبغة يعمل حسن الريح في طاحونته باعلى تل بقوز السلام ، حيث يطحن الذرة والدخن الطعام الغالب للنازحين وسكان مدينة كوستي ، يقول حسن الريح « نزحت الى قوز السلام من دار الجمع غربي كوستي بعد موجة الجفاف التي اجتاحت قرى النيل الابيض منتصف ثمانينات القرن الماضي اذ تجمع قوز السلام جميع قبائل السودان من نوير وفلاتة ودينكا وشلك و تاما و فور و برتي وعرب ، ويكشف الريح عن سر توجه النازحين دوما الى قوز السلام ويقول انه اكثر منطقة في النيل الابيض تقدم الدعم للنازحين فاي نازح يأتي الى هنا يجد المساندة من سكان المنطقة و المئات من الطلاب النازحين تخرجوا من الجامعات وكان ذلك بفضل قوز السلام « ، ويؤكد حسن ان روح قوز السلام تتمثل في الاعتناء والايواء ، وبكلمات بسيطة من حكمة شعبية تحمل معاني الايمان العميق يؤكد الريح « ربنا ما شق حنك ضيعو « في ما معناه « الله يكفل الرزق للجميع » ، ويمضي حسن قائلا: انهم بالرغم من ضنك العيش في السنوات الاخيرة بسبب الوضع الاقتصادي وارتفاع سعر صرف الدولار الذي القى بظلاله على مجمل الحياة بالبلاد الا ان الاهالي قدموا كل ما يمتلكون لاكرام وفادة النازحين الجدد . وقد لجأ حسن الى انتاج عبوات صغيرة من طحين الذرة والدخن تتناسب مع ظروف النازحين ومع امكانية البيع الآجل ، فمساعدتهم برأيه تتعدى الايواء والطعام في الشهور الاولى من استضافتهم وتمتد الى المساعدة في تمكينهم من امتلاك مصادر دخل خاصة بهم مما يتيح لعدد كبير منهم استعادة نمط حياته القديم . الى كل ذلك يضاف بعدا آخر وهو البعد الاجتماعي حيث التواصل في الافراح والاتراح بجانب التزاوج بين عائلات المقيمين والنازحين اصبح امرا عاديا في قوز السلام . وابان الريح ان عددا كبيرا من النازجين تمكن بفضل تلك الطريقة من استعادة نمط حياته القديم ، مشيرا الى تواصلهم في الافراح والاتراح كاشفا عن عدة حالات زواج بين عائلات المقيمين والنازحين . ويشير حسن بيديه الى مباني قوز السلام المشيدة من الطين « الجالوص » والقش قائلا : « تلك منازل المساكين الذي استضافوا اخوانهم» .