: لا أعلم تاريخ هذا التوصيف «الإسلام السياسي»، أو من استخدمه أولاً؟ وقد يتبين لأي ملاحظ أن وصف الإسلام وربطه بالسياسة، لا يخلو من غرض، والغريب كذلك أن من أراد بهذه التسمية أن يقول بأن لا سياسة في الإسلام، فعل ذلك وفق رؤية سياسية! فقولهم بالإسلام السياسي يعني إرادته الخفية بفك الارتباط بين الإسلام والسياسة، وبمعنى آخر بين الإسلام والحياة، وهذه رؤية أرثوذكسية بحتة، تتفهم طبيعة الفعل في وضعه مقولباً ومجنداً بإرادة التخفي، فبضدها تعرف الأشياء كما نقول دائماً، ويبدو لي أيضاً أن «الإسلام السياسي» الوصف لا المعنى خرج تجلياً لخطاب يخشى الإسلام إذا اقتحم الميدان الاجتماعي الذي نصفه تجاوزاً بالسياسي، ومن يردد هذا الكلام يفعل ذلك بإرادة تخفي لكن مكشوفة بسبب تواصلها ضد ما تحمل من مبادئ، ف «الديمقراطي» يقول بأن لا قداسة في السياسة، يعني فيما يعني إن إلباس المعنى الاجتماعي للحياة رؤى متعالية عن الواقع تجعل الفعل أسير حضور تاريخي محكوم بفضاء آخر، ولا يسعنا إلا القول إن إزاحة السياسي من الديني فعل غير ديمقراطي، بل وغير علماني بالذات، كيف؟ جوهر فكرة العلمنة إن نحقق للفعل الإنساني حضوره مستقلاً عن أية تحكمات كانت مجسدة في نصوص معتبرة، أو أفكار تاريخية، أو مجموع قيم محل تقدير في السلوك الاجتماعي، وبهذه النظرة فإن مصادرة من يرى في الإسلام ديناً ودنيا، تقف مُزِيفةً حقيقة الحرية والاختيار، فلا مالك لرخصة أن يمنع كائناً من كان أن يعتقد في ما يراه صالحاً لممارسة حياته هو وجماعته، ولا من الليبرالية حتى أن تتخندق في أزقة أقوال تاريخية قال بها روسو أو ماركس أو حتى فوكوياما، وتدعي أنك تملك نهايات الأشياء، وتجرم الجميع واصفاً وعيهم السياسي/الاجتماعي بالمتخلف والمتأخر والمحشور في صحارى مكة أو نخيل يثرب، لأنك أيضاً تتاجر ببضاعة مسروقة، فلا أحلام التنوير والحداثة وما بعدها لك فيها يد أو تمتلك في أراضيها أفدنة تزرعها وتحصد ما بذرت، أنك سارق وبجح للأسف الشديد. فالتكرار المجند لصالح وعي زائف ومجروح بأن لا سياسة في الإسلام فعل مفضوح وتصدير للوهم يشتغل عليه كثيرون بوعي أو بدونه، إن بعض مثقفينا وقعوا في الفخ الذي نصبه الاستعمار المنسحب تكتيكياً، فالتيارات العروبية واليسارية التي أصرت على تبني مشروع الفلسفة الغربية في نسخه المتعددة، قومياً وما فوق قومي، فرطت في استقلاليتها وعملت بالوكالة لصالح مشروعات لا تخصها ولم تنتج في مطابخها، وهذا عين عوار الثقافة العربية في الخمسينيات والستينيات حينما رددت كببغاء مفقوء العين أن لا صلاح إلا باتباع الأنموذج الغربي الباهي والمستنير بالحريات، ولكنه حريات تخصهم، فلو طلبت من مثقف علماني أن يقول بإمكانية تبنيه المطلق لفكرة الحرية كما هي في الحضارة الغربية الراهنة، لأجابك بأنه يستعصي على المجتمع العربي أن يقبل بها كما هي، بل سينتقي منها ما يوافق مشروعه السياسي، ألا يقف هذا دليلاً على أن الانتقائية صفة وركيزة في مشروع العلمنة، ويعكس ضعف الحالة الثقافية لمن ينادون بها؟ فإن كنت ستختار ما يناسبك من الحريات لتشبه واقعك ويقبل بها الناس، فإنت بذلك تثبت بأنك لا تملك إلا خيارات ليست لك رغم تشدقك بملكيتها!! كما أنه لا يخفى علينا أنه يراد بالإسلام أن يكون مثل بقية الأديان، أي أن يقف به عند عتبات القداسة التي يسخر البعض نفسه لمحاربتها، وهنا مكمن التناقض، فلو أريد للإسلام أن يصبح مثل ما أريد للمسيحية أن تكون عليه، فإنت إذن توافق على كهنوت رجال الدين!! وتوافق أن تتحكم فيك مرجعية فقهية واحدة جامدة تلقي إليك كيفية التدين وأين يمكنك أن تجد الله في طريقك! أليس هذا تناقضاً فاضحاً؟ من ناحية تقول إنه لا قداسة في السياسة، ومعركتنا ليست مع الإسلام، ونحن مسلمون أكثر منكم، وفي الوقت ذاته تدعي بجهالة أن الدين لا علاقة له بالسياسة، طيب قل لي بربك كيف يستقيم قولك بأنك لست ضد الدين، وسبب ذلك أنك تريد أن تحفظ للدين جلالته وأن يضطلع به فقط رجال الدين، إذن أنت تؤمن بالقداسة والارتكان لفهم واحد للتدين وتملكه جماعة محددة! ولهذه الجماعة أن تتولى تسيير شؤون الناس أي المتدينين منهم، ألم تقل من قبل إن الإسلام دين الحرية، فأي حرية تلك التي ترهن لفهوم بعينها وتمنح لأشخاص محددين يمارسون عليك طغيانهم في الفكر ويقررون حلالك وحرامك وفق رؤيتهم ومحدودية وعيهم وملكاتهم المعرفية؟.. فعلى من تضحكون؟! إن مشروع إزاحة «السياسي» من «الديني» لا علاقة له بثقافتنا العربية، ولم تنشأ احتياجاته من داخل بيئتنا الاجتماعية، إنه مشروع قادم من فضاء آخر، ولا يمكن أبداً أن نترجم لغة الإشارة لمن فقدوا بصرهم! ودعاة إبعاد الدين عن السياسة فإنهم يمارسون كذلك تديناً في تبينهم لهذا المفهوم، واعتقد أن العيب كله يكمن في فهم طبيعة الدين ودوره، فالذي يخشى من الإسلام يستخدم ذاكرة حرجة لتعاقبات سياسية جرت في تاريخنا العربي الإسلامي، ويستشهد لك بالفتنة الكبرى وملك معاوية ومقتل الحسين وانقسام الأمة والمعتزلة وقضية خلق القرآن، والحروب الثقافية بين الفرس والعرب في الدولة العباسية وفي الأندلس وحرب الطوائف وفي الحروب الصليبية وفي مقتل فلان وفلان وفي الحكم العثماني، وكلها استشهادات حقيقية وواقعية، لكن ما يعوز مستخدميها هو الوعي بأنه لا علاقة للتفسير التاريخي بالأصل في النص الديني، فالعلمانية ذاتها انقلبت في بلدان عربية كثيرة إلى ديكتاتوريات وأنجبت سفاحين ما شاء الله عليهم، قتلوا شعوبهم ودمروا بلدانهم، والشواهد أكثر من أن تحصى!!