الواقع الذي أفرزته الانتخابات البريطانية المتمثل في إخفاق حزبي العمال والمحافظين في إحراز الأغلبية البرلمانية «326 مقعداً من أصل 650» التي تمكّن أي حزب من تشكيل الحكومة منفرداً، هذا الواقع هو سابقة لم تشهدها بريطانيا خلال المائة عام الماضية، إلا خمس مرات كان آخرها في عهد حكومة إدوارد هيث «حزب المحافظين» في بدايات ستينيات القرن الماضي. وهذا الوضع تعارف التراث البرلماني البريطاني على تسميته ب «البرلمان المعلق» أو البرلمان المشنوق، وهى الترجمة الحرفية لمصطلح (HUNG PARLIAMENT) الذي يستعمله الانجليز، وهذا المصطلح يمثل احتكاراً حصرياً للانجليز، إذ لا تعرفه كل برلمانات العالم سواهم. هذا الوضع وهذا البرلمان المعلق أو المشنوق، وضع مفاتيح مقر رئاسة الوزارة في «10 داوننج ستريت» في يد زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار الشاب نيك كليغ، ليلوح بها في وجه زعيمي المحافظين والعمال، اللذين يتطلعان لخطب وده ومقاعد حزبه «57 مقعدا» حتى يأتلف مع أحدهما كي يتيسر لأي منهما الوصول لرئاسة الوزراء. هذا البرلمان المعلق أو المشنوق والذي يزدريه البريطانيون، إذ يفرض عليهم حكومة ائتلافية، هو ذات الوضع الذي رزئنا به في السودان منذ الاستقلال وخلال الفترات الديمقراطية الثلاث التي تعاقبت على البلاد قبل مجيء انقلاب الإنقاذ.. والاستثناء الوحيد كان حكومة البرلمان الأولى «ديسمبر 53م» التي مكنت الحزب الوطني الاتحادي من تشكيل أول حكومة وطنية منفرداً لأول وآخر مرة، إذ أحرز «51» مقعداً من أصل «97» دائرة، في حين أحرز منافسه حزب الأمة «22» مقعداً، وبسقوط حكومة الاستقلال على اثر لقاء السيدين دخلنا دوامة البرلمانات المشنوقة والحكومات الائتلافية. وحكومة السيدين تلك كانت ائتلافاً بين حزبي الأمة والشعب الديمقراطي الذي إنشق من الوطني الاتحادي، ثم جاءت انتخابات مارس «58» لينتج عنها ائتلاف آخر بين ذات الحزبين في حكومة استمر فيها السيد عبد الله خليل في رئاسة الوزراء. وفي انتخابات «65م» عقب ثورة أكتوبر تشكلت ثلاث حكومات ائتلافية بين حزب الأمة والاتحاديين، ورأس اثنين منها السيد محمد أحمد محجوب بينما رأس السيد الصادق واحدة، ثم جاءت الانتفاضة، وتوالت البرلمانات المشنوقة والحكومات الائتلافية منذ انتخابات 86م والى حين قيام انقلاب الإنقاذ. وهكذا نرى أن الانجليز محقون في توجسهم وازدرائهم لمثل هذه التركيبة البرلمانية التي حصدنا نحن في السودان كل أشواكها وائتلافاتها الخاسرة، ولم نظفر منها بأية ثمار.. أما هذا البرلمان الذي جاءت به الانتخابات الأخيرة فهو ليس معلقاً أو مشنوقاً، ولكنه يمسك بكل الحبال التي لن يتردد في لفها حول عنق كل من يقول «بِغم»..!!