كما قلنا بالأمس فإن بريطانيا تتجه نحو حكومة ائتلافية، وهو أمر لم يشهده الانجليز منذ ستينيات القرن الماضي، لذلك راح الحزبان الكبيران «المحافظون والعمال» يتسابقان للظفر بموافقة حزب الديمقراطيين الأحرار أو الكتلة الأخرى من الأحزاب الصغيرة، لبلوغ الأغلبية التي تتيح لأي منهما الظفر بحكومة ائتلافية يكون أحدهما على رأسها. وعندما نمضي في تحليل هذا الموقف بالمقارنة مع تجاربنا البرلمانية بما فيها التجربة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة ، فإن اللافت للنظر أن حزب الديمقراطيين الأحرار لم يتهافت أو يتلهف على المشاركة كما يحدث عندنا، ولم يضع عينه على وزارة التجارة أو الصناعة أو الطاقة كما يتشهى ساستنا في المواسم الائتلافية، ولكن الزعيم الشاب لحزب الديمقراطيين الأحرار نيك كليغ، أعلن في صرامة وتشدد أن موافقة حزبه على الائتلاف مع أي من الحزبين الكبيرين مربوط بالاتفاق على برنامج سياسي للحكومة القادمة يلبي بعض أطروحات برنامجه الانتخابي، وعلى رأسها المطالبة باستحداث نظام التمثيل النسبي «أي القوائم» كإضافة لنظامهم العريق المتمثل في الانتخاب الحر المباشر «صوت واحد لرجل واحد»، إلى جانب الموقف من الاتحاد الاوربى. إذن هو صراع حول البرامج وليس المناصب لا كما يحدث عندنا، وهذا التشدد الذي أبداه زعيم الديمقراطيين الأحرار لم يأتِ من هرم الحزب أو صفوة قيادته، ولكنه استجابة طبيعية لتأثير وتمسك كتلة الناخبين من أعضاء الحزب بحقهم في رسم سياسة الحزب، مما يدلل على أن البرنامج له الأولوية دون النظر إلى حجم الوزارات أو عددها. ويؤكد هذا الأمر استطلاع قام به التلفزيون البريطاني وسط عضوية هذا الحزب بشأن موقفها من ائتلاف حزبهم مع احد الحزبين الكبيرين، إذ قالت شابة مستطلعة بالحرف «أنا عضو في الديمقراطيين الأحرار منذ أكثر من عشر سنوات، وإذا تسرعت قيادة حزبنا بالموافقة على ائتلاف دون تحقيق برامجنا فسوف استقيل من الحزب وأمزق بطاقة عضويتي فيه»..!! وكما قلنا فإن الفرق شاسع وبعيد بين ممارساتهم الديمقراطية وممارستنا، فما زالت أحزابنا ترى في «البرامج السياسية» ترفاً ولزوم ما لا يلزم، والائتلافات الوزارية عندنا يقررها سادتنا المتربعون على عروش أحزابهم وفق اشتهائهم لوزارات محددة وتعيين أسماء بعينها، بينما الناخب عندنا ينتهي دوره عند صندوق الانتخابات ولا يجوز له أن يخوض أو يفتي في شأن ما بعد الانتخابات، فذاك شأن الكبار. كل هذا القصور والتباين المزري ما بين واقعنا الانتخابي وواقع البريطانيين، يعود سببه إلى قصر تجاربنا الديمقراطية وافتقارنا إلى الخبرة التراكمية في هذا المجال، لأننا لم نصبر على الديمقراطية، ولم يصبر عليها المغامرون الذين يطأونها بأحذيتهم الثقيلة في الصباحات الباكرة.