: في مجموعته الشعرية الثانية « الليل عبر غابة النيون» ? الصادرة عن دار النسق بالخرطوم في عام 1987م ? نص فاره للشاعر الراحل المجيد محمد عثمان محمد صالح كجراي ( 1928 ? 2003م ) أحد أعمدة الشعر العربي الحديث « أغنية إليها *(1) .. وقد بلغ هذا النص مدى بعيداً في التحليق فوق أجواز فضاءات الإبداع ، فقد استخدم شاعره ? رحمه الله ? تقنيات فنية متطورة في الانطلاق من باحات الرمز إلى براحات أكثر عمقاً وسحراً ودهشة . ومثلما كانت رؤية الناقد الدكتور عز الدين إسماعيل عن أدونيس*(2) ، فلا أشك أن كجراي استطاع باقتدار أن يعيد بشعره بناء الكون وتشكيله عن طريق اللغة ? الرموز ? موظفاً كل مهاراته في إعادة البناء والتشكيل : معي أنت في ساحة الكون ، في شهوة الموت والاغتراب معي أنت في نبضات الزمان ، وفي لحظات الأسى حين يطرق بابي العذاب وكنت أحدث عنك الحضور ، وها أنذا أتحدث عنك إلى الصمت حين يرفرف ظل الغياب .. وفي لحظة خلاقة من لحظات الوعي ينطلق صوت كجراي محلقاً فوق سماوات التنوير ، ليرمز إلى أمته العربية موظفاً بإشاراته اللماحة تلك القرائن الواضحة « كل المشارف ، كل التخوم ، هدير المحيط ، مياه الخليج ، الرافدين ، النيل ، الصحارى ، غابة الاستواء ، أرض ذي يزن ...إلخ « إلى الأمة العربية شمالي الصحراء وجنوبيها ، وهي أمة ينتمي إليها الشاعر لساناً وهوية وثقافةً ، ومن رحم الأصالة فيها تجابه روحه الوثابة خفافيش ظلام الاستعمار الجديد : وتحملني الريح فوق ترابك ، أعبر مثل قطيع الغيوم أطرز ثوبك أرسم بالضوء كل الفراشات ، كل العصافير ، كل النجوم وكل الينابيع ، كل المشارف ، كل التخوم أطوف فوق هدير المحيط ، وفوق مياه الخليج وفي ساحة الرافدين أسائل سرب القطا حين تأتلق الشمس عبر حقول السنا والأريج أطوف مع النيل فوق الصحارى ، وفي غابة الاستواء ، مع النهر في عدوه المتعرج فوق شريط اخضرار بهيج وفي أرض ذي يزن حيث يختلط الشعر والعطر والناس والآلهة أحس بأنفسك الوالهة يفك الدكتور خالد الكركي ? ضمن استلهامه الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث ? شفرة رمزية ذي يزن إذ إن « سيف بن ذي يزن رمز تراثي غني بأخباره التاريخية ، وسيرته الشعبية الفنية بالحكايات والأساطير ، والتي تشكل جانباً كبيراً من مخزون الموروث التراثي الجاهلي في اليمن . وغنى هذا الرمز نابع من احتمالات تفسيره من غير موقع : فهو رمز من أراد تحرير وطنه ، لكن لجأ إلى قوة خارجية ما لبثت أن احتلت الوطن . لقد وقف بباب قيصر سبع سنين فأبى أن ينجده ، فمضى إلى كسرى فوعده وأنفذ الوعد لابنه فدخل الفرس بدلاً من الأحباش . أما القصة الشعبية فهي خلط بين الأخبار وما تراكم من حكايات ، وهي غنية بالأساطير والشخوص « *(3) .. على أن الشاعر عبد العزيز المقالح في ديوانه « رسائل إلى سيف بن ذي يزن « وفي كتابه « مقدمة تاريخ اليمن « يتوقف عند البطل الأسطوري سيف بن ذي يزن مناقشاً فكرة العقدة اليزنية كما عرض لها بعض الكتاب والسياسيين اليمنيين : « ليس صحيحاً ما أشاعه بعض المؤرخين من أن سيف بن ذي يزن المناضل القومي ، وبطل الأسطورة المعروف ، قد قام برحلتي استجداء إلى بلاد الروم ثم إلى بلاد فارس طلباً لعون هاتين الحكومتين ضد الغزو الحبشي . والحقيقة التي تؤكدها وقائع التاريخ أن سيف بن ذي يزن قد غادر اليمن فعلاً لطلب العون ولكن ليس من فارس والروم وإنما من أبناء وطنه من المهاجرين اليمنيين الذين كانوا في ذلك الحين قد كونوا إمارتين عربيتين على حدود الدولتين الكبيرتين ، وكان ارتباطهم بهاتين الدولتين وراء رحلة سيف إلى عاصمتي بيزنطة وفارس «(4) . أين ينام مثخن الجفون سيف ( آصف بن برخيا) ؟ أين تنام « عاقصة « ؟ أين اختفى في أي قمقم ثوى « عيروط « ؟ *(5) .. وفي مقطع منساب بأحر الشجن ، وفي إيماءة حزينة مفاجئة يلتفت كجراي إلى أمته العربية .. تلك الغادة الحلوة الفارهة وقد كبل فتاها القيد ، وأسلمته للمجهول الأعاصير ورياح الغروب : أقول لقلب الدجى آه من هاهنا مرت الغادة الحلوة الفارهة فيرتد صوتي عميق الصدى : مرت الغادة الحلوة الفارهة ورنق حولي الظلام الكفيف وفاجأني الذعر حين تسلل من خلف قضبان زنزانتي جسداً يتدثر بالشوك ، يقطر من فمه الدم ، يصرخ في هيجان مخيف وحين رأيتك كالطيف في سقف زنزانتي كنت ألهث بين الضباب الكثيف وها أنذا أتساءل هل ودعتنا رياح الربيع ؟؟ وهل طوقتنا رياح الخريف ؟؟ وهل صوح الزهر قبل الأوان ولم يبق في أرضنا العربي الشجاع الشريف ؟؟ من يتحدى رياح الغروب ، من يتصدى لوقف النزيف و» النزيف» هذه في النفس شئ منها ، وهي مما يقع فيه المعاصرون ، جاء في « لسان العرب « لا بن منظور (630 ? 711ه) : « نزف دمه نزفاً ، فهو منزوف ، ونزيف : هريق ... والنزيف والمنزوف : السكران المنزوف العقل ، وقد نزف . وفي التنزيل العزيز : « لا يصدعون عنها ولا ينزفون « أي لا يسكرون ، وأنشد الجوهري للأبيرد : لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا شربتم ومدرتم وكان أبوكم كذاكم ، إذا ما يشرب الكأس مدرا والبيتان للأبيرد من الطويل ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ، والدرر ، وشرح عمدة الحافظ *(6) كتب شاعرنا محمد عثمان كجراي « أغنية إليها « عام 1980م وقد فجع في وطنه العربي الكبير وشرخ الوطن الحلم الذي لما يلتئم ؛ لاسيما بعيد اتفاقية كامب ديفيد التي وقع عليها رئيس مصر الأسبق محمد أنور السادات مع مناحيم بيغن رئيس دولة الكيان الصهيوني ، تحت رعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في 17 سبتمبر 1978م : تعلقت يا أمتي بالضباب وبالوهم أسلمني الحزن للموت فوق خضم النجيع المخيف فيا طائراً يتخبط في دمه في العراء مهيض الجناح ويا وجه قرطاج يا حلماً مزقته الرياح متى نتخطى الجراح ؟؟ متى نتخطى الجراح ؟؟ .. وفي تلك الحقبة الزمنية نفسها وقف نزار قباني ? ذات الوقفة ? مناجياً قرطاج .. نزار الذي قال إن الناس « يعرفونني عاشقاً كبيراً .. ولا يريدون أن يعرفوني غاضباً كبيراً»... *(7) بحرية العينين .. يا قرطاجة شاخ الزمان .. وأنت بعد شباب حزني بنفسجة يبللها الندى وضفاف جرحي روضة معشاب قرطاجة .. قرطاجة .. قرطاجة هل لي لصدرك رجعة ومتاب ؟ لا تغضبي مني .. إذا غلب الهوى إن الهوى في طبعه غلاب فذنوب شعري كلها مغفورة والله ? جل جلاله ? التواب .. على أن كجراي يفئ إلى ظل أمة العرب العاربة .. وتحت سقيفتها ينام وفي خاطره كل مستقبل الوادعين الصغار .. تنطلق إلى الحقول الخضر زمر الطيور .. وفي التراب الأعفر يبقى يشرب الحزن : خذيني إليك بكل عيوبي فحبك سيدتي هو أكبر ذنب جنيت فلا تسخري من ذنوبي * هوامش : 1/ الليل عبر غابة النيون : محمد عثمان كجراي ، دار النسق ، ط 1 : 1987م . 2/ مقومات الشعر الجديد : د. عز الدين إسماعيل ، معهد الدراسات الإضافية ? جامعة الخرطوم 1967م . 3/ الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث : د. خالد الكركي دار الجيل ? بيروت ، ط 1 1989م . 4/ ديوان عبد العزيز المقالح : دار العودة ، بيروت . 4/ المصدر السابق . 5/ المصدر نفسه . 6/ لسان العرب : ابن منظور ، الجزء الرابع عشر : المكتبة التوفيقية ? تحقيق : ياسر سليمان أبو شادي ? مجدي فتحي السيد . . 7/ الأعمال الكاملة للشاعر نزار قباني : من مقدمة د. شاكر مصطفى ? الدولية للنشر والتوزيع : 2006م .