النيل الازرق: صديق رمضان مكي ماهل: اذا كان نجاح الحكومات يقاس بمدى توفيرها لمقومات الرفاهية لشعوبها، فإن تقييم اداء الحكومات المتعاقبة علي البلاد منذ الاستقلال سيكون صفراً كبيراً، خاصة اذا أسقطنا هذا التقييم على الواقع في محليات الروصيرص، قيسان والتضامن بولاية النيل الازرق، التي تفتقد لكل شيء، ويعيش سكانها تفاصيل حياة قاسية تنعدم فيها حقوق نصَّ الدستور علي توفيرها، وقد تكون الحرب اللعينة التي دارت ردحاً من الزمن بهذه الولاية من اسباب التردي، الا ان قرائن الاحوال ومعطيات الواقع تكشف عن غياب الدور الحكومي في هذه المناطق في كل الاحوال، وفي المساحة التالية نستعرض قليلاً من كثير ويسيراً من نزير عن احوال الناس في هذه المحليات التي كأنما لسان حال مواطنيها وقادتها الذين التقيناهم يقول «نظرة يا مركز». قيسان.. حياة قاسية من أراد التعرف علي المعنى الحقيقي لمفردة المعاناة فليسجل زيارة لمحلية قيسان، ومن يسعى لمعرفة تفاصيل الحياة في السودان قبل سبعين او ثمانين عاماً، فليسجل ايضا زيارة الى محلية قيسان، كل شيء يدعو للحزن بل البكاء، فهذه البقعة من ارض البلاد ظلت تدفع فواتير باهظة بسبب الحرب، تردياً في الخدمات.. فقراً.. جهلاً ومعاناة.. نزوحاً وتشرداً، وهذه المحلية ما أن يتلقط مواطنوها انفاسهم بعد حروب دامية، حتى يجدون أنفسهم امام شبح الحرب الذي حول حياتهم الى جحيم، فالسنوات التي اعقبت اتفاقية نيفاشا استنشقوا خلالها نسيم السلام وهواء الاستقرار، الا ان ذلك لم يستمر كثيراً عقب احداث الفاتح من سبتمبر عام 2011م، التي اعادت ذكريات حرب عام 1987م، وما بين تلك الحرب وهذه كأنما كتب لإنسان قيسان أن يظل رفيقاً دائماً للمعاناة. والواقع بالمحلية التي تحادد دولة إثيوبيا يحكي عن معاناة لا تحدها حدود، وبالرغم من توقف الحرب وعودة الاستقرار الامني، الا ان المحلية مازالت تبحث عن ملامحها وروحها، بعد ان هجرها سكانها الى معسكرات اللجوء بالجارة إثيوبيا، فيما احتمى آخرون بالجبال الشرقية، والواقع يقول ان «55» قرية هجرها اهلها وباتت خاوية على عروشها ينعق فيها البوم، ومكتوب على مدخلها «كانت هنا حياة». سلطات حكومة النيل الأزرق والمحلية تبذلان جهوداً كبيرة لتلافي آثار الحرب، إلا أن حجم الدمار وانعدام الخدمات الأساسية يوضح ان معركة الانماء اكبر بكثير من امكانات الحكومتين المحليتين، وان تدخل المركز بقوة بات أمراً ملحاً لإعادة الحياة الى هذه المحلية. معتمدها الشاب «ونحن في الصحافة نتحاشى دائماً مفردات الإشادة بالمسؤولين»، يستحق ان نقول عنه مثابر ومجتهد وذلك لأنه يعمل في ظروف لا يرضى بها الا من جرى حب الوطن في دمه، فهو يسعى لإحداث اختراق في حياة الناس نحو الأفضل، إلا أن الحمل ثقيل. وفي حديثه الشفاف ل «الصحافة» يعترف بوجود معاناة حقيقية تواجه المواطنين، ويشير المعتمد الشاب منصور التوم مصطفى الى ان الوضع في المحلية بعد اتفاقية نيفاشا كان يمضي نحو الافضل، وان الحكومة قامت بتأسيس بنية تحتية جيدة في مختلف انحاء المحلية، تتمثل في المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس، الا ان المعتمد يكشف عن ان الحرب التي اندلعت في عام 2011م قضت على الاخضر واليابس وتسببت في تدمير النبية التحتية، وقال ان المحلية شهدت نزوحاً كبيراً لمواطنيها صوب إثويبا، وان البعض احتمى بالجبال الشرقية للمحلية، ويشير الي ان هناك اكثر من «55» قرية هجرها المواطنون، ويشير الى بذلهم جهوداً مضنية بجانب حكومة الولاية وبعض المنظمات لإعادة النازحين الى مناطقهم، ويكشف عن نجاحهم في اقناع عدد مقدر منهم عادوا الى المحلية، غير انه يعترف بوجود اعداد منهم بمعسكرات اللجوء بإثيوبيا وآخرين يقطنون على الشريط النيلي، فيما مازال من نزحوا الى الجبال موجودين فيها في ظل ظروف حياتية بالغة التعقيد، وقال إنهم رغم المعاناة والنزوح فإن التحضيرات للموسم الزراعي تمضي بصورة طيبة بعد ان حدث استقرار امني، وجاء دعم من ادارة السدود وحكومة الولاية والمنظمات التي وفرت التقاوي والآليات الزراعية وكل مدخلات الانتاج. اما جانب الصحة في محلية قيسان فقد كشف عنه المواطنون، فمستشفى المدينة لا يوجد به غير مساعد طبي واحد، كثيراً ما يذرف الدموع وهو يقف عاجزاً عن انقاذ امرأة تحتاج لعملية ولادة قيصرية وهو يراها أمامه تلفظ انفاسها الاخيرة، والمستشفى يكاد يفتقد لكل شيء، فحتى الإسعافات الأولية غير موجودة وكذلك علاج مرضى السكري، ولا تتوفر حتى ادوية امراض بسيطة مثل الملاريا والدوسنتاريا والالتهابات الرئوية والمعوية، والمستشفى يعاني شحاً ونقصاً حاداً في كل شيء، ولقد طالبت ادارة المستشفى منذ العام الماضي بضرورة توفير الأدوية المنقذة للحياة وتعيين كوادر طبية واحضار اجهزة طبية حديثة، ويقول المواطن حسن إن مستشفى قيسان يمثل قمة الماسأة، ويشير الى ان المواطنين باتوا يفضلون العلاج بالاعشاب البلدية لعدم وجود ما ينشدونه من خدمة طبية حقيقية يتمتع بها مواطنون سودانيون في انحاء البلاد المختلفة. ويعترف معتمد قيسان بتردي الوضع الصحي في محليته، ويقول إن المستشفى حدث له انهيار بسبب الحرب، وهو شبه متوقف عن العمل ولا توجد به غرفة عمليات، وحتي عربة الاسعاف معطلة، وقال إن المستشفي يعاني من عدم وجود كوادر صحية ولا يوجد سوى كادر طبي واحد، وقال إن هذا الواقع يمتد ليشمل المناطق الاخرى والمراكز الصحية، مؤكداً أن توفير الخدمات الصحية من أكبر التحديات التي تواجههم. اما على صعيد التعليم فقيسان ظلت تدفع فاتورة الحروب الباهظة، وتعتبر من اكثر مناطق السودان التي يوجد بها فاقد تربوي كبير، وهنا يشير المعتمد الى أن التعليم في المحلية يشهد تراجعاً كبيراً بداعي النزوح والتشرد، وقال إن التلاميذ الموجودين في قيسان تركوا التعليم وباتوا فاقداً تربوياً، هذا بخلاف النازحين والعالقين في الجبال. ومياه الشرب بقيسان تبدو افضل حالاً من محليات النيل الازرق الاخرى، الا ان هذه الافضلية تنتقص اذا علمنا أن المواطنين يشربون من مياه النهر دون اضافات لتنقيتها، ويقول المعتمد انهم رغم ذلك يبذلون جهوداً مقدرة لتوفيرها، كاشفاً عن معاناة يواجهها السكان في مدن التعويض في مياه الشرب خاصة المدينتين «10» و «11». والجانب المشرق للصورة القاتمة بمحلية قيسان يوضح ان سلطات المحلية والمواطنين يغالبون الصعاب من اجل تغيير الواقع نحو الافضل، ويعود المعتمد مؤكداً استقرار الاوضاع الامنية، مشيداً بمتانة العلاقة التي تجمعهم بالجارة إثيوبيا، مناشداً السلطات بالولاية والمركز والمنظمات الوقوف بجانب مواطني محليته لتوفير الخدمات. الروصيرص.. حاضر لا يتسق مع الماضي كانت عاصمة مشيخة خشم البحر في دولة الفونج، بل تعتبر احدى اعرق المدن بالسودان ذات التاريخ الضارب بجذوره في الاعماق البعيدة، فقد كانت مركز إشعاع ثقافي وتعليمي ووطني، ويسجل لها التاريخ تميزاً وتفرداً في التعليم، فمدرسة عمارة دنقس التي تم تأسيسها في عام 1914 خرجت كل قيادات النيل الازرق، وهي المدرسة التي تلقى فيها الدكتور حسن عبد الله الترابي تعليمه، وكانت حاضرة محافظة اقليم النيل الازرق قبل ان تخرج مدينة الدمازين الى الوجود مع تشييد خزان الروصيرص، وواقعها لا يعبر عن عراقتها، فهي رغم احتضانها لخزان الروصيرص فإن حظها في الكهرباء ضعيف ولا يرقى الى مستوى طموحات السكان، وللمفارقة فإن حي قنيس الواقع على مرمى حجر من الخزان الذي وصل انتاجه من الكهرباء حتي مدينة الرنك، يعيش في ظلام دامس منذ ان تم انشاء الخزان قبل عقود، ورغم ان نهر النيل الازرق يقع على بعد خطوات منها، الا ان 60% من احياء حاضرة المحلية والارياف بلا خدمة مياه، وتجاهد سلطات محليتها لوضع بصمة تؤكد عراقة وأصالة مدينة الروصيرص. وهي من اكثر محليات النيل الازرق التي تأثرت سلباً وإيجاباً بتعلية خزان الروصيرص، وعندما زرناها توقعنا أن نجدها مدينة مكتملة الخدمات، الا أن ظننا ذهب ادراج الرياح عندما تجولنا فيها، فقد وجدنا ان عراقتها وماضيها لا يتسقان مع حاضرها، فعلى صعيد التوطين فقد تأثر «22» الف مواطن يقطنون الآن في مدن ليست كتلك التي شيدت لمتأثري سد مروي، ورغم ان هناك من يشبه منازلها بالحظائر الا أننا نرى أنها خطوة الى الامام، بيد انها تتوقف على اكمال الخدمات في هذه المدن التي ضحى سكانها بقراهم وموطن الاجداد من اجل تنفيذ مشروع قومي حيوي واستراتيجي. ويشير معتمد محلية الروصيرص حسن ابراهيم، الى ان هناك ايجابيات انعكست على المحلية من مشروع التعلية تتمثل في ان القرى المتناثرة في المحلية تم تجميعها في سبع مدن، سهلت عليهم تقديم الخدمات للمواطنين، ويقول في حديث ل «الصحافة» ان الريف الجنوبي للمحلية كان يعاني عزلة كاملة، الا انه بفضل ما قامت به ادارة السدود تطور على الاصعدة كافة، ومثلما اشاد المعتمد بالايجابيات التي جنتها المحلية من تعلية الخزان والتي وصفها بالكثيرة، الا انه كشف عن بروز مشكلات صاحبت التوطين وتمثلت في ظهور الكثير من الاوبئة التي عملوا على معالجتها بالتعاون مع وزارة الصحة، متمنياً أن يتم تنفيذ توجيه النائب الاول لرئيس الجمهورية المتعلق برصف الطرق التي تربط بين مدن التوطين والروصيرص، وكذلك تكملة الخدمات خاصة في المدينة رقم «4»، وكذلك حل مشكلة الصرف الصحي. ويشير معتمد الروصيرص الى ان الريف الشمالي للمحلية الذي يعتبر من اكثر مناطق السودان انتاجاً للموز يفتقد الى خدمة الكهرباء رغم وجود عدد كبير من القرى فيه، وقال ان مدينة الروصيرص بها اربعة احياء كبري، وان كل حي في داخل خمسة احياء، وان بعضها لم تصله الكهرباء، الا انه كشف عن ان عمليات التوصيل تجري لمد ستة احياء بالكهرباء. وتعبر الروصيرص من اكثر محليات النيل الازرق التي تشهد تطوراً كبيراً في التعليم، حيث تضم اكثر «100» مدرسة اساس 90% من فصولها مشيدة بالمواد الثابتة، متفوقة عي حاضرة الولاية في هذا الصدد، ورغم التميز الواضح في التعليم الا ان هناك مدارس تعاني نقصاً في المعلمين. وفي مجال الصحة يعترف معتمد الروصيرص بوجود مشكلات في اصحاح البيئة بمدن التوطين، لافتاً الى ان مستشفى الروصيرص يفتقد الى اختصاصيين في عدد من التخصصات، وفي محور المياه يعتبر ان تحدياً كبيراً يواجههم يتمثل في عدم وصول شبكة المياه الي العديد من احياء المدينة وارياف المحلية، وقال انهم يسعون الى حل معضلة المياه خلال المرحلة المقبلة. ومن يزور الروصيرص يلحظ ان ثمة تغييراً قد طرأ في مرافقها خاصة السوق الذي يشهد عمليات تشييد احدث ميناء بري في الولاية وليس موجوداً في الدمازين، وذلك بفضل موارد المحلية التي تم استغلالها بصورة مثلى ايضاً في تشييد سبعة اسواق حديثة في الريف الجنوبي، ولكن تبقى الحقيقة ان الروصيرص تعاني في الخدمات الاساسية وان 60% من سكانها لا يحظون بخدمتي المياه والكهرباء. التضامن.. صرخة في وادي الصمت مدينة بوط عاصمة محلية التضامن التي تقع في الجزء الغربي من ولاية النيل الأزرق على الحدود مع دولة جنوب السودان، تمتاز بأراضٍ زراعية ورعوية، الأمر الذي جعلها قبلة أنظار المستثمرين في مجال الزراعة خاصة الشركة العربية للزراعة بمنطقة أقدي التي تحتل مساحة زراعية كبيرة، ومن مدن اشهر مناطق المحلية: «بوط رورو قلي جريوة احمر سيدك الجمام أقدي بك وغيرها»، وسكان المحلية مزارعون ورعاة، وبالمحلية أعداد هائلة من قطعان الماشية والإبل والضأن أتت من دولة الجنوب بعد انفصال الجنوب. ورغم الثراء البائن على المحلية الا انها تفتقد لمقومات الحياة الضرورية، فهي تكاد تعاني في كل الاصعدة، وهذا ما كشف عنه المواطن آدم الذي التقيناه في موقف التضامن، وقد بدا متحسراً وهو يتحدث الينا، وذلك حينما أشار الى ان التضامن اسم لمحلية فقط، ولكن على أرض الواقع لا علاقة له بالمحلية، وقاطعه مواطن يدعي حامد الذي كشف عن معاناتهم في مياه الشرب التي قال انها تمثل هاجساً يؤرق السكان، وذلك لعدم وجود شبكات مياه ومحطات وآبار بصورة كافية، كاشفاً عن اعتماد المواطنين وماشيتهم على شرب المياه من الحفائر، مؤكداً ان السكان في كل عام يظلون تحت رحمة السماء، فإن جاء موسم الخريف ضعيفاً فهذا يعني أنهم سيواجهون صيفاً قاسياً، وقال حتى إن جاء الخريف جيداً فإن مياه الحفائر تنضب في شهر ديسمبر، وانهم يظلون يعانون حتى الخريف القادم، وعن الصحة قال ساخراً ان مستشفى المحلية الوحيد اشبه بالشفخانة، حيث لا يوجد به كادر طبي ولا اجهزة حديثة، مشيراً إلى انهم يتلقون علاجهم في الدمازين. وتساءلت مواطنة تدعى فاطمة عن اسباب تجاهل الحكومة لمحليتهم التي قالت انها تفتقد لكل شيء، وانهم يرون «الظلط» والكهرباء والمياه النقية عندما يحضرون إلى الدمازين.