د. أحمد عثمان خالد : لا شك أن الصراع الفكري بين الإسلام والتيارات المناوئة له قديمٌ قدم التاريخ ، واتخذ أشكالاً مختلفة في مراحل مختلفة ابتداءً من العصور الأولى للإسلام إلى يومنا هذا ، ولا يمكن أن نقرأ الصراع القائم اليوم بين الإسلاميين والعلمانيين بمعزل عن الصراع الفكري بين الإسلام والتيارات الأخرى قديمةً كانت أم حديثة، فالذي يجري في الوطن العربي كله وما نسميه الصحوة الإسلامية ضد التيارات الغربية ما هو في حقيقته إلا تجديد لتحديات الفكر الإسلامي الذي بدأ منذ الغزو اليوناني للشرق وبعد أن ترجم المسلمون معظم ما خلفه رجال الفلسفة اليونانية، خاصةً المشهورين منهم، كأفلاطون وأرسطو وغيرهما، فقد تداول المسلمون كتب هؤلاء وأعجب الكثيرون بها وتأثروا بما فيها أبعد تأثير، وكتبوا في ذلك، وأصبحت دراسة الفلسفة اليونانية بدعة المثقفين في العصر العباسي، وبرز عدد من الذين يمثلون هذه الفلسفة ويدعون إلى الاستعاضة بها عن الفكر الإسلامي الأصيل، كالفارابي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل، وقد بلغ من قوة تيار هذه الفلسفة الوافدة أن تأثر بها بعض كبار رجال الفكر الإسلامي من الذين كان لهم الفضل في كشف نقائصها وكشف اختلاف مثلها عن مثل الإسلام وقيمه وأسلوب التفكير الإسلامي الصحيح، ومع أن الفكر الإسلامي منفتح على العالم بطبعه يستفيد من الحكمة في أي وعاءٍ كانت، إلا أنه كفكر أصيل يقيس جميع ما يقتبسه أو ما يستفيد منه بمقياس مبادئه ومثله، فلا يسمح بما يهدم هذه الأسس أو يقضي عليها، ولا شك أن الثقافة اليونانية تختلف في نظرتها إلى الحياة والكون والوجود عن نظرة الفكر الإسلامي، فالثقافة اليونانية ثقافة نظرية بحتة لا تهتم بأن تقوم المعرفة على أساس الإيمان بالله والرسالات الإلهية، عكس الفكر الإسلامي الذي يرى أن الوجود كله يجب أن يخضع للقوانين الإلهية، ومن هذا المنطلق قام الصراع بين الثقافة اليونانية الدخيلة والفكر الإسلامي، صراعاً فكرياً قوياً تجلّت فيه بقوة الحُجّة والمنطق من أجل إعادة النقاء إلى الفكر الإسلامي، فكتب الإمام الغزالي كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة» وردَّ فيه على معظم نظريات الفلسفة اليونانية ومبادئها وبين تفاهتها وضآلة شأنها، وقد كان هذا الكتاب قاصمة الظهر للفلسفة اليونانية في الشرق الإسلامي، وعلى عجب في ذلك فقد سبق للإمام الغزالي أن اطلع على الفلسفة اليونانية من مصادرها وألف في ذلك كتاباً سماه «مقاصد الفلاسفة» وكذلك في إطار الصراع الفكري كتب ابن تيمية كتاب «الرد على المنطقيين» فنَّد فيه كل مزاعم الفلسفة اليونانية التي زرعت في المجتمع الإسلامي وكانت سبباً في ظهور الفرق الكلامية المختلفة، واستطاع الإمام الغزالي وابن تيمية تنقية الفكر الإسلامي من الشوائب التي لحقت به جراء الغزو اليوناني، ولذلك التاريخ يعيد نفسه في الصراع الفكري بين العلمانيين والإسلاميين وبنفس القدر الذي كان عليه في العصر العباسي، فقط اختلاف أزمنة وأساليب لكن جوهر الصراع هُو هو، فمنذ القرن التاسع عشر اتخذ الصراع الفكري شكلين: الشكل الأول: الغزو المسلح الذي كان من نتائجه وقوع معظم البلاد العربية والإسلامية تحت وطأة الاستعمار. الشكل الثاني: الغزو الفكري الثقافي الذي رافق الحرب المعلنة على المجتمعات الإسلامية قاطبةً، وكان الخطر على الفكر الإسلامي من الغزو الفكري الغربي كاملاً في طبيعته الثقافية الغربية نفسها، واختلافها في معظم مبادئها عن الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية، فقد كانت السلطات الاستعمارية تشرف على بث الثقافة عن طريق المدارس وشتى وسائل الدعاية المتاحة من كتب ومجلات، وفتح الأبواب أمام الذين تشبعوا وآمنوا بالفكر والثقافة الغربية وإغلاقه أمام الذين يريدون التمسك والمحافظة على أصولهم. لقد كانت في نشر الثقافة الغربية حرب على الفكر الإسلامي، ذلك أن الحضارة الغربية أصلاً كانت أثراً من آثار النزاع المسلح بين رجال الدين والعلم، لأنه من المعلوم بالضرورة أن نظام الحكم في أوربا قبل عصر النهضة كان حكماً «ثيوقراطياً» تتحكم فيه طبقة خلعت على نفسها اسم الدين وسامت الناس صنوف الإهانة والعذاب، ووقفت أمام الحرية والكرامة والعلم وسائر المقومات الإنسانية، واستطاعت أن تحجب النور عن العالم الغربي قروناً طويلة، وكان المسلمون يفتحون آفاقاً واسعة من المعارف والفنون، وقد شعر المتحررون في أوربا بأنه لا خلاص لهم إلا بالقضاء على هذه الطبقة والحكم الرهيب المستبد، وهكذا نشأت الحضارة الغربية وكلها ردود فعل ضد رجال الكنيسة وبالتالي الدين، فقد تبنت هذه الحضارة فصل الدين عن الدولة في الحياة الاجتماعية والسياسية، كما تغلغلت روح الإلحاد والتحلل عن قيود الدين في أسلوب المفكرين وفي علومها وآدابها وفلسفتها، وقد عبر عن سيادة الفكر الغربي المفكر المسلم محمد أسد حيث قال :«وقد كان البلاء الأكبر في حضارة اليونان والرومان قديماً وفي حضارة الغرب الحديثة هو في السيطرة المادية في غاياتها وأهدافها، ومن هنا نشأ الفساد والحروب والخصومات، إن الرجل عاملاً أم رجلاً فكرياً إنما يعرف ديناً واحداً هو عبادة الرُّقي المادي والاعتقاد بأنه لا غاية في الحياة إلا أن يجعلها الإنسان حرة طليقة من قيود الطبيعة، أما كنائس هذا الدين فهي المصانع الضخمة ودور السينما ومختبرات الكيمياء ودور الرقص» «عثمان معالم الثقافة، ص20» . هذا وصف رجل كان من صناع الحضارة الغربية ثم تركها لما تبين له أنها تمضي سريعاً نحو نهايتها، فجعل من الفكر الإسلامي ملاذاً له، لكن ظل ضعاف النفوس من المسلمين ممن تأثروا بالفكر الغربي يتولون الدفاع عن الحضارة الغربية ويسعون في نشر الفكر الغربي باعتبار أن التقدم في الحياة لا يكون إلا بخلع رداء الدين كما فعلت أوربا، فسادت في العالم العربي الإسلامي الأفكار الليبرالية والاشتراكية والقومية بديلاً للفكر الإسلامي الذي أثبت الغرب عدم جدواه ومواكبته للعصر، فقد أصبح الفكر الغربي بعد القرن التاسع عشر هو المسيطر وهو الغالب في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وصار الفكر الإسلامي غريباً في ظل هذه الأجواء والرياح العاتية، لكن قيض الله للفكر اليوناني الإمام الغزالي وحجة الإسلام ابن تيمية، لتعرية الفكر الغازي وبيان محاسن الفكر الإسلامي، فكان للإمام الغزالي في تلك الفترة كتابه المشهور «إحياء علوم الدين»، فقد كانت صحوة إسلامية في ذلك الزمان الغابر، وبنفس القدر عندما نتأمل حالنا المعاصر نجد انه عندما ساد الفكر الغربي العالم الإسلامي وتغلغلت مفاهيمه وثقافته في المجتمعات المسلمة، واستعاض العالم الإسلامي الأنظمة الغربية بدلاً من الفكر الإسلامي، سادت العلمانية في كل أركان المجتمعات الإسلامية، على المستوى السياسي والاقتصادي والتعليمي فقد كانت علمانية شاملة، وظنَّ الناس أن الخلاص والنجاة في هذه المنتجات الغربية المستوردة فتمسكوا بها وقاتلوا تحت رايتها ردحاً من الزمان فما زادتهم إلا خبالاً، فكانت الصحوة الإسلامية التي ابتدأها الشيخ محمد بن عبد الوهاب متأثراً بالمجتهد الأكبر ابن تيمية ودعوته الإصلاحية، وكان أبرز ما دعا اليه محمد بن عبد الوهاب هو العودة إلى الدين الصحيح ونبذ البدع والخرافات، كما نجد حركات إسلامية إصلاحية بعده في كل أنحاء العالم تنادي بالعودة إلى الإسلام والتمسك بمبادئه وقيمه ومثله، ففي ليبيا كانت الحركة السنوسية، وفي الجزائر كانت جمعية العلماء الجزائريين وزعيمها عبد الحميد باديس وما انبثق عنها من مؤسسات مختلفة أهمها مدارس القرآن الكريم، فقد كان لها الفضل في تبني هذا الاتجاه، وقد استطاعت عن طريق مدارسها أن تحافظ على ثقافة الشعب الجزائري الأصيلة وارتباطه بالإسلام والعروبة، أما في أندونيسا فإن أبرز الجماعات الإسلامية جماعة دار الإسلام، وفي تركيا نجد الحركة النورسية التي أسسها الشيخ سعيد النورسي رحمه الله، ومازالت آثارها باقية إلى يومنا هذا. ومن كبرى الحركات الإسلامية المناهضة للفكر الغربي حركة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر وانتشرت بعد ذلك في البلاد الإسلامية قاطبة، وتعد أوسع حركة إسلامية عرفها المسلمون في العصر الحديث، وقد قامت هذه الحركة على النقد الجريء لحضارة الغرب وثقافته ومواجهتها وجهاً لوجه والظهور أمام الغرب بمظهر المهاجم، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن نقد الحضارة الغربية كان قد بدأ منذ أمد بعيد، ومن أوائل من ساهم في هذا النقد الأمير شكيب أرسلان في كتابه «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟» وقد بدأ نقضه بالإشارة إلى حقيقة مهمة وهي أنه ليس كل شيء قديم منبوذاً، كما أنه ليس كل شيء جديد مرغوباً فيه، بل ينبغي أن ينظر في العلم إلى الأصلح وفي العمل إلى الأصلح بدون ملاحظة هذا جديد وذلك قديم «معالم الثقافة ، ص16»، وهو يرى أن الدعوة إلى الاستفادة من الغرب في حد ذاتها ليست شيئاً خطيراً ولكن الأخذ بالثقافة الغربية على علاتها هو الخطر بعينه، وهذا بيت القصيد بين الإسلاميين والعلمانيين، إذن إذا أردنا أن نحلل واقعنا المعاصر على ضوء تلك الفرضيات والاستنتاجات التاريخية التي أشرنا إليها آنفاً، فإن الصورة تصبح واضحة وجلية لحركة الصراع الفكري الدائر هنا وهناك، خاصةً بعد ثورات الربيع العربي التي قربت الإسلاميين إلى مواقع الحكم والسلطة، وأبعدت العلمانيين الذين يقاتلون من أجل ما رفضته الشعوب قاطبة بعد تجارب قاسية كان نتاجها الفشل السياسي والتردي الاقتصادي والميوع الأخلاقي، فآبت الشعوب إلى دينها وأصلها تبحث عن الخلاص والأمن والاستقرار، وهذا ما أثار حفيظة الغرب لينقلب على الديمقراطية عبر أذياله وأتباعه في مصر، وقبلها في الجزائر وفلسطين، وحاولوا مراراً في تركيا لكن ظل قطار التجديد والصحوة الإسلامية ماضياً في طريقه رغم العراقيل المصطنعة، وأحياناً باسم حماية العلمانية وأحياناً بالشروط القسرية لانضمام تركيا للاتحاد الأوربي، وكل هذا يأتي في إطار الصراع بين الفكر الإسلامي والفكر العلماني. إن الفكر الإسلامي عبر تاريخه الطويل لم ينتصر بالآلة الحربية أو العسكرية، إنما انتصر بالقيم والمعاني النبيلة والقدوة الحسنة وتقديم الأفضل للإنسان والمجتمع، وبالتالي فإن نجاح كل الحركات الإسلامية كان مردّه إلى حضورها الدائم ومشاركتها اللامحدودة في حلحلة قضايا الإنسانية، وهذا ما خلق لها أرضية الصعود في المجال السياسي أخيراً، بعد إقناع الجماهير بالفعل الملموس في كل مجالات الحياة والصحة والتعليم ودرء الكوارث وغيرها من البرامج الاجتماعية والإنسانية، وهذا ما جعل الحركات الإسلامية تحتل الصدارة في المجتمعات التي ساد فيها الفكر العلماني، بل استطاعت هذه الحركات أن تحقق جملة من الأهداف الإستراتيجية في ظل صراعها مع الفكر العلماني الوافد، فقد استطاعت بحمد الله رد الاعتبار للقيم الإسلامية ورفع ما أثير حولها من شبه وشكوك، كما استطاعت أن تنتقد الفكر الغربي المعاصر وتكشف زيفه أمام الرأي العام الإسلامي بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي الذي ساعد في نشر وتعزيز الفكر الإسلامي المعاصر.