: الوقوف على مسافة واحدة من أطراف النزاع من أبجديات العمل الصحافي الذي لا يختلف عليه اثنان. لكن يبدو انه أصبح مجرد شعار فضفاض «تخرم» به المحطات الاخبارية أذن وعين المتابع لها «مذهولاً» حتى أضحت المحطات هذه لا تفرق بين الخبر والرأي والتحليل. لقد أسيء لمعايير العمل الصحفي الرشيد، وانتشر الحذف والتبديل والزيادة والتطبيل في غرف الأخبار، وانتُهكت مقدسات الخبر الصحفي. وأصبحت العناوين الرئيسة مثل «دف» الطار.. اضرب ثم اضرب ثم اضرب.. فيعلو الصوت كلما كان الفراغ عريضاً. وعلى هؤلاء أن يعلموا أن المشاهد بات حصيفاً يعلم جيداً الغث من السمين، وفي ظل الفضاء المفتوح ما عليه إلا أن يدير «الريموت» يميناً أو يساراً حتي يريح عينيه وأذنيه من ضجيج هذه الاواني الفارغة، بكافة أشكالها المنتشية منها والمتباكية، وكان الاجدى بهذه المحطات التلفزيونية إعمال المهارات الصحافية و«الحذقة» لإخفاء الحقائق وصبغها بالوان غير أصلية، وقت اذ قررت الجنوح عن مسار المهنية وتحري الدقة والسير في أي طريق غير ايصال الرسالة التي يفترض أن يناط بها عاملوها. إن قدسية الخبر أضحت فقط في أدبيات مهنة الصحافة، ونسي هؤلاء إن مصداقية أية مؤسسة اعلامية تقاس بصدق اخبارها وتحري مطبخها التحريري الدقة والوقوف علي مسافة واحدة من كل الاطراف. السقوط الكبير يبدو أن الأزمة المصرية عكس الأزمة السورية، فقد غطت فظائع بشار الأسد سوءة رداءة التغطية - فكشفت السقوط الكبير للمحطات الاخبارية، ناهيك عن الصحافة المصرية ووسائل الاعلام المحلية التي وصلت حد أن يشتم الصحافي ويمد لسانه ساخراً علي الهواء. أما القنوات الفضائية فأصبح المشاهد بمجرد أن ينظر إليها يعرف أن هذه قناة «الاخوان» وتلك قناة «المعارضة» دون أدني عناء. إن بضاعة كاسدة مثل هذه تجعل المشاهد يعود للوراء ويعيد تقييم التغطية الاعلامية للربيع العربي وما صاحبها من تشويه «تغاضي» عنه سابقاً في سبيل توقه لمتابعة هذه الشعوب وهي تكسر قيود الانظمة الديكتاتورية وتشق طريقها للديمقراطية. وعلينا بوصفنا صحافيين أن ندرك جيداً أن القضايا العادلة لا تتطلب انحيازاً، بل إن الانحياز المفرط لها قد يفقدها صدقيتها ويجعلها عرضة للتأويل وفقدان المعاني، وقد تضيع حقوق أصحاب القضايا أنفسهم، أو يقع كثيرون ضحايا لهم في سبيل نيل المطالب، فيكون الوطء أشد قسوة وظلماً من المطلب نفسه. «إن الحياد هو الحد الفاصل بين تقديم المعلومة المجردة والتحريض والحض علي توجه سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ديني معين»، هكذا تُجمع مختلف المؤسسات الإعلامية في تعريفها للحياد. وبالعودة للأزمة المصرية بعد الثلاثين من يونيو نجدها قد أفرزت تحولاً جديداً في الصحافة المرئية والمسموعة والمقروءة، حيث أنها أظهرت طريقين لا ثالث لهما، إما أن تكون مع أو ضد أحد طرفي النزاع.. ولعل أبلغ وصف للحال الآن لوسائل الاعلام «إلا من رحم ربي» هو واقعة الحادي عشر من سبتمبر التي قسمت العالم وقتها إلى معسكرين أما أن تكون مع أمريكا أو ضدها. مثل المشهد المصري اليوم الذي تعاملت معه «أغلب» وسائل الإعلام من زاوتين فقط لا ثالث لهما، إما هي بجانب الإخوان أو معارضيهم. وتهافتت على إبراز الأخبار بالصورة التي تخدم موقفها هي من الازمة، ولم تخجل حتي من أن تعمل معيار التكافؤ في البرامج والنشرات الاخبارية الرئيسة التي تتطلب وجود ممثلين عن طرفين النزاع. أو تلك على شاكلة إعمال تقنيات التصوير في تصغير وتكبير اللقطات، وتكثيف التقارير التي تساند بشكل أو بآخر الرأي الذي تريده القناة. لقد أفرزت التغطية للمشهد المصري الآن غوغاء تعوي في شتى الفضائيات، وأصبحت نشرات الأخبار مثلها مثل حالة الاستقطاب السياسي وجمع الحشود في الميادين. والمشاهد بين هذا وذاك أصبح لا يحتاج لكثير عناء حتى يميز بين الحقيقة والتدليس. وليس أكثر سقوطاً من أن يعرف قارئك أو مشاهدك مع أي الأطراف تقف انت بوصفك صحافياً. وعلي الصحافي أن يستشعر التاريخ والأمانة والمهنية وهو يؤدي دوره في مثل هذه المرحلة الحرجة من عمر الشعوب. الدوحة 27 يوليو 2013م