د. أحمد عثمان خالد : في صبيحة الثامن عشر من رمضان كان الهجوم القادر على طريق الأبيض الدبيبات الدلنج من الحركات الدارفورية التي لم تعرف حرمة الشهور المقدسة، والتي صارت كالكلاب الضالة بعد الضربات الموجعة التي تلقتها من القوات المسلحة في أبو كرشولا وسدرة ، في ذلك الليل البهيم كانت المدينة هادئة بعد ليلة السابع عشر من رمضان وكل الناس فرحون مستبشرون بحرمة الشهر الكريم ومتوقفون عند محطاته الإيمانية المتنوعة من فتح مكة حتى ليلة بدر الكبرى، فالإيمانيات وصلت إلى ذروتها والعزائم قويت والنفوس اشتاقت إلى لقاء ربها وهي صائمة قائمة، في مثل هذا الجور الروحاني الرفيع التقى الجمعانِ بالقرب من مدينة الدلنج وتحديداً في لفة الفرشاية المدخل الأول لمدينة الدلنج من الناحية الشمالية، حيث استغل العدو الغادر طبيعة المنطقة فاحتمى بالأشجار الكثيفة وانزوى تحت الخيران والمجاري، وظن أنه بذلك يستطيع كسر عزيمة الرجال وهزيمة الأبطال من القوات المسلحة والدفاع الشعبي الذين واجهوا العدو بالتضحية والفداء والإخلاص للدين والوطن، فاستشهد في تلك المعركة رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه وكان على رأس هؤلاء الشهداء الشهيد الدكتور عباس أقرين منسق الدفاع الشعبي بالدلنج، وإن لم يكن ناقش الدكتوراة بعد فقد نالها بامتياز بعد الشهادة فليس بعد الشهادة شهادة، هذا الفتى الأسمر ابن مدينة الدلنج وحفيد السلطان عجبنا تعرفه الجبال والسهول والوهاد بمجاهداته في الحركة الاسلامية والعمل العام، تعرفه الشرطة الشعبية مرابطاً لا يخور له عزم ولا تلين له عريكة، يعرفه المجاهدون في الدفاع الشعبي داعية ومجاهداً لا يشق له غبار، تعرفه جامعة الدلنج أساتذة وطلاباً كأستاذ للغة الإنجليزية التي هاجر المتخصصون فيها إلى دول الخليج بحثاً عن الدولار والريال، وظل الشهيد أنموذجاً للتضحية والفداء من أجل الوطن الكبير ومدينته الصغيرة الدلنج التي عزّها بدمه الطاهر الشريف عندما استشهد مدافعاً عنها وعن رجالها ونسائها وأطفالها، فخرجت مدينة الدلنج يوم وداعه كأن لم تخرج من قبل، وبللت الدموع من الرجال والنساء صخور الجبال الرواسي حتى صارت كالعهن المنفوش، في ذلك اليوم بكى الرجال وكم هي عزيزة دموع الرجال في زمن القسوة والجفوة، لكن مآثر الشهيد عباس تنفطر منها الجبال وتنشق منها الأرض، ففي لحظة الوداع الأخير تتكشف للناس مآثر الشهداء ومناقبهم في الصحبة والرفقة الصادقة، فما رأيت في تلك اللحظة أضعف وأقل تماسكاً من صديقه ورفيق دربه في العمل التنظيمي والتعليمي الأستاذ اسماعيل محمد الفضل الرجل القامة، لكنه في تلك اللحظة كان أضعف مما كنا نتصور فدموعه التي تتقاطر دون توقف كشفت عن حقيقة الإخوة الإيمانية الصادقة التي جمعت بينهما، لقد كان استشهاد الشهيد عباس أقرين بمثابة الاستفتاء عن دماثة خلقه وعلاقاته الاجتماعية الحميمة بين الناس، فقد خيم الحزن على مدينة الدلنج يوم استشهاده مع رفاقه الميامين البررة الشهيد اسماعيل تاور والشهيد على صبرة وزمرة من الشهداء الأخيار ذهبوا الى ربهم في أبرك الأيام وأسعدها وأعظم الشهور وأفضلها، لكن تظل دماؤهم عهداً وميثاقاً بينهم وبين إخوانهم المجاهدين من بعدهم ألا تفريط في شبرٍ من أرض الوطن مهما كان حد التحدي ومهما كان حجم المكر والغدر من أعداء الوطن والدين، فمعركة الدلنج الأخيرة تجسدت فيها كل معاني الوحدة والتلاحم بين الجيش والشعب والمجاهدين، لكن يبقى السؤال المهم إلى متى نحن نعيش تحت تحديد الحركات المسلحة؟ لقد أصيب المواطن بالذُّعْر من التفلتات الأمنية وأصبح غير آمن في سربه مع عصابات الجبهة الثورية التي اتخذت من جنوب كردفان ملاذاً لها تحتمي بجبالها وتستظل بظل أشجارها وتسرق وتنهب من أموالها ما تشاء، أليس في مقدور الدولة حسم هذه الحركات واخراجها عنوة من جنوب كردفان إلى أية بقعة في الأرض حتى يستريح المواطن من شرورها؟ ومن جانب آخر فقد أثبتت الهجمة الأخيرة على الدلنج أن إعلامنا يتعامل بازدواجية المعايير، فقد غابت للأسف الشديد الأجهزة الإعلامية مسموعة ومقروءة ومرئية عن تناول الحدث بحجمه الطبيعي رغم خطورته وآثاره النفسية على المواطن في جنوب كردفان، بل خرجت بعض الصحف في اليوم الثالث للحديث لتسطر على صفحاتها الأولى بأن مجموعة من قطاع الطرق اعتدوا على طريق الدلنج كادقلي، بينما كان اعلام المعارضة في المواقع الاسفيرية المختلفة يذكر طريق الدبيبات الدلنج وهي الرواية الصحيحة، والمؤسف أننا وصلنا مرحلة الجهل بوطننا الذي نقاتل من أجله ونموت وآخرون يجهلون حتى جغرافيته الطبيعية، بل المؤسف أكثر حتى الأقلام المحسوبة على جنوب كردفان سقطت في هذا الاختبار عندما تناسته ولم تتناوله وتعكسه للرأي العام، ونحن نسأل أين الحماس والاندفاع لقضايا جنوب كردفان؟ أم أن قضايا الولاية كتب عليها أن تربط بالأشخاص إذا ما ذهبوا ذهبت الولاية عن أبصارهم واهتماماتهم، فيا للأسف فإن ذات الأقلام الكردفانية ذرفت دموع الحزن ودقت طبول الحرب في الهجوم العابر على سدرة وقبلها أم روابة، فما لكم كيف تحكمون؟ إن الفاجعة التي أصابت مجتمع الدلنج هي أكبر مما يتصوره السياسيون بأن الأمر مجرد «شفّاتة وقطاع طرق»، فالحديث قد وقع وانجلى أمره بجهد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى، لكن ما فات على السياسيين بالمركز أن عدم المشاركة الوجدانية في أمرٍ جلل كهذا له ما بعده في المعادلات السياسية. وكانت لفة بارعة من السيد والي ولاية جنوب كردفان المهندس آدم الفكي الذي قطع زيارته للخرطوم ليسجل حضوراً في سرادق عزاء الشهداء بالدلنج، وكان لمشاركته الأثر العظيم في نفوس أسر الشهداء، كما كانت هناك زيارة وفد أبناء جنوب كردفان بقيادة اللواء محمد مركزو كوكو البروفيسور خميس كجو والمهندس على دقاش والدكتور حسين كرشوم وآخرين، فقد كانت وقفة جميلة ومعبرة عن مدى تضامن وتلاحم أبناء الولاية في السراء والضراء، بقي أن نقول للإخوة في قيادة الدفاع الشعبي وعلى رأسهم سعادة اللواء: جمال طه ماذا أنتم فاعلون لأسر هؤلاء الشهداء على المدى البعيد؟ فهل من الممكن تسكين الشهداء في رتب عسكرية عليا لتعين أسر الشهداء في مسيرة حياتهم خاصةً في ظل الظروف الاقتصادية الخانقة، كما نلتمس من القيادة العليا في الدولة وعلى رأسها الشيخ الجليل الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية رجل البرِّ والإحسان، تمليك منازل لأسر شهداء مدينة الدلنج، فالشهيد الدكتور عباس أقرين له زوجتان وعدد من الأطفال القُصّر ولا يملك من حطام الدنيا إلى مبلغ الإيجار الشهري الذي كان يدفعه من مرتبه، وكذا الحال لكثيرين من شهداء الدلنج. ولعل الإخوة في منظمة الشهيد الأستاذ ساتر الزين ورفاقه الميامين قد سبقوني وتقدموا بمرافعات قوية في هذا المضمار من أجل إخوانهم الشهداء، وما إشاراتي هنا إلا تذكير وربما تعتبر تجاوزاً، فلك العتبى حتى ترضى ابننا العزيز ساتر الزين قيدوم، فكلنا في الهم سواء.