بداية لعل الدرس المستفاد من إعداد وإخراج سيناريو الانتخابات وما تمخض عنه من نتائج، هو أن هذه الانتخابات لم تكن مقصودة لذاتها وجوهرها الديمقراطي «كصيغة جادة لإحداث تحول ديمقراطي ينقل البلاد إلى حالة من الاستقرار السياسي الحقيقي» سواء على مستوى فهم الولاياتالمتحدة الأميركية أو على مستوى رعاة اتفاقية السلام الأوروبيين، وبالطبع على مستوى فهم الحزبين الحاكمين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني. وهذا الفهم هو ما عبرت عنه واشنطون من خلال مبعوثها الخاص للسودان في أكثر من تصريح، فالمقصود إذن هو التزام بإجراءات نصت عليها اتفاقية السلام تشكل الانتخابات ولو من الناحية الشكلية جزء مهم منها لإنتاج حكومة وبرلمان يرتبان إجراءات الاستفتاء ويصادقان على قرار الانفصال. ثانيا رغم الحملات الناقدة التي تشنها واشنطون والمجتمع الدولي على نظام الإنقاذ وملاحقات الجنائية، إلا أن واشنطون غير راغبة من الناحية العملية في هذه المرحلة على الأقل في الضغط من أجل إحداث تغيير أو تحول ديمقراطي حقيقي، بل أنها تعوِّل وتحافظ على استمرار شراكة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بكل تناقضاتها لانجاز برنامج الانفصال، وهذا ما يفسر تغاضيها عن التجاوزات التي صحبت عملية الانتخابات، رغم انتقاداتها التي يمليها مركزها وتحتمها المصداقية. وبالتالي سيمضي السيناريو إلى نهاياته حتى إكمال عملية الانفصال التي شارفت على فصلها الأخير. وما يدور من أحاديث حول «الوحدة» سواء من الحزب الحاكم أو ما يكونه من لجان للدعوة إلى الوحدة، هو مجرد تجمل ومجاملات وتبرير سياسي بأنها لم تقصر في طرق أبواب الوحدة، وهي محاولات يصدق عليها المثل السوداني «الجس بعد الذبح»، فقد سبق السيف العذل وهذا ما هو معلوم لكل من ألقى السمع وهو شهيد منذ صياغة الاتفاق الذي يحمل الانفصال كمحصلة في طياته ونهاياته وتحصيل حاصل. ولعلَّ هذا ما جعل المؤتمر الوطني منذ البداية ينتظر حدث الانفصال بأكثر مما يعوِّل على الحفاظ على وحدة غير موجودة في الواقع. إذن ما يجب الحديث عنه الآن، هو كيف يمكن أن نخفف من آثار وتداعيات الانفصال كأمر واقع لا محالة، بحيث لا يجلب الخلاف حول متطلباته أي تجدد للقتال، بمعنى أن الانفصال الذي سيقبله الشمال وهو راضٍ لخيار الجنوبيين هو ثمن كبير لعدم تجدد الحرب مرة أخرى. أما على صعيد القوى المعارضة فعليها الانصراف كلياً بعد تجربة الانتخابات الماضية بكل سلبياتها، إلى ترتيب بيتها الداخلي على المستوى الحزبي داخل كل حزب، وعلى المستوى الجبهوي للتوافق حول برنامج وطني شامل يخاطب أزمات السودان وتداعيات الانفصال على مستوى الأمن والاستقرار في السودان، ولقضية دارفور التي لا تزال معلقة على مشاجب الانتظار. وسيكون أمام القصر الحاكم خياران لا ثالث لهما هما، إما الاستمرار في سياسات الانفراد والإقصاء وتحمل نتائج انسداد الأفق السياسي بكل تبعاته، أو الاتجاه إلى صيغة من صيغ الإجماع الوطني تعترف بدور القوى المعارضة وأوزانها التي غيبت بفعل فاعل، والاستنارة بآرائها لتحقيق رؤية وطنية شاملة للحفاظ على ما سيتبقى من الوطن وحل أزماته الأساسية المعلومة. ولعلَّ هذا ما عبر عنه السيد الصادق المهدي باعتباره أكبر المساهمين بالرأي الوطني الصادق والمجرد من الغرض بشهادة معظم السودانيين، وهو ما يصلح أن يكون برنامجاً لكل القوى المعارضة لتبين مواضع أقدامها بعد أن أبطن لها المؤتمر الوطني غير ما أظهر، وهي نقاط حددها المهدي بقوله في الآتي وهو يخاطب جماهير حزبه: أولا: تنبيه كافة أهل السودان بمن فيهم المؤتمر الوطني الذي صار حرصه على الانفراد بالسلطة أقوى وسيلة لإنجاح المخططات المعادية للسودان، لعله يذكر أو يخشى. ثانيا: الدعوة والعمل على برنامج واضح المعالم يقوم على: - البناء الذاتي التظيمي. - التحالف الواسع مع كل القوى الوطنية المستعدة لنجدة الوطن على أساس السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الكامل. - تكوين منبر قومي للدعوة في كافة الأوساط الجنوبية لخيار الوحدة، وفي هذا الصدد بث مفردات حول المساواة في المواطنة، والثروة النفطية، والتعايش الديني، والثقافي وامتصاص مرارات الماضي، ومناهضة الذين يستظلون بشجرة المؤتمر الوطني ويصفون الجنوبيين بأقذع الأوصاف التكفيرية والتخوينية بل العنصرية. - جمع الصف الدارفوري كله في إعلان مبادئ واحد، وإن اختلفت الفصائل، يستجيب لمطالب دارفور المشروعة ويرفض الغوايات الثنائية العقيمة. كانت الانتخابات أمل البلاد في الخلاص، ولكن التزوير قفل هذا الباب، فجعل كثيرين يفكرون في وسائل أخرى، سيما أن الحكم الذي أفرزته الانتخابات أظهر بطشا بالمدنيين العزل كما حدث في الفاشر في يوم 3/5/2010م. إن اطلاق النار على مدنيين عزل احتجوا على من أكلوا أموالهم برعاية رسمية، جريمة كبيرة ندينها باعتبارها شبيهة بما حدث في بورتسودان عام 2005م، ونطالب بمساءلة الجناة وإنصاف الضحايا. وسوف نكون هيئة قومية من محامين واقتصاديين لتحري الحقائق، ورسم خريطة طريق للإنصاف، وتنوير الرأي العام الوطني والدولي بالحقائق. وأخيرا هل ستتجه القوى المعارضة لترتيب بيتها من الداخل حتى تكون فاعلة ومؤثرة في حل مشاكل وأزمات الوطن؟ وهل يدرك المؤتمر الوطني أنه باستحواذه وانفراده بالسلطة سيعيد إنتاج أخطائه؟ وهل تدرك الحركة الشعبية أن خيار الانفصال الذي تلوح به سيضعها أمام تحديات تصغر أمامها كل دوافع الانفصال؟ إن كانوا يدركون فالهم أكبر، وإن كانوا لا يدركون فالمصيبة أعظم. * واشنطون