*أذكر أنه وفى نهاية الثمانينات وبداية التسعينات وحتى النصف الأول منها « أيام كان الأداء فى الاعلام وخاصة الرياضى منه مقيدا ومحكوما ومنضبطا » وقتها كان الواحد منا لا يستطيع الخروج عن الخط المهنى المرسوم والمحدد، حيث كانت الخطوط الحمراء التى تفصل بين الجدية فى الأداء وبين الفوضى « قريبة جدا »، وكان الاعلامى وقتها مقيدا داخل المؤسسة وخارجها وليس هناك أى مجال للجنوح بممارسة العصبية « الانتماء الواضح والصارخ » وكل من يحاول تعدى هذه الخطوط تنزع منه صفة الصحفى وتطلق عليه صفة « المشجع »، وأذكر أن أستاذنا الراحل المقيم حسن عزالدين مختار وهو صاحب مدرسة الموضوعية عادة ما يتمسك بهذه المبادئ ويرفض انحياز الصحفى لأى جهة وفى كل الحالات، ويؤمن بأن الصحفى يجب أن يكون متميزا ومحايدا فى طرحه وهادئا فى انتقاده - فما أن تخطئ أو تنفلت فانك ستكون محل غضب ومساءلة رؤسائك والمشرف المباشر عليك وحتى الشارع العام كان له رأي فى المنفلتين والمتعصبين من الصحافيين الذين يمارسون المهنة من واقع انتماءاتهم والذين يرتبط أداؤهم بالانحياز لنادى معين، ولذا فقد كانت التفلتات محدودة ومحصورة فى « واحد أو اثنين » وهؤلاء لا أثر لهم ولا لكتاباتهم وكان يطلق عليهم « كتاب الأندية » - كان الأداء فى الصحافة الرياضية عاما وشاملا وليس « مخنوقا » ومحددا ومحصورا، فالاهتمام كان بكل المناشط وليس كرة القدم فقط كما أن التركيز كان ينصب على العنصر الاساسى فى اللعبة وهو اللاعب وليس الادارى « صاحب الجيب المنتفخ أو الرصيد المالى الضخم »، وكان الأداء يقوم على أشكال وأنواع العمل الصحفى الدقيق والموزون « أخبار - متابعات - تحليلات - حوارات - قضايا - تحقيقات - أراء - منوعات »، كل ذلك تتم ممارسته وفق الضوابط والقيود والأحكام المعروفة سلفا للصحفى - وليس كما الان حيث أصبح الرأي هو سيد الموقف أيا كان خبيثا أو حميدا على أسس أو انطباعى ، وكاتبه هو النجم الكبير والادارى هو مصدر الاهتمام و الأكثر نجومية من اللاعب ولم تعد الأخبار صادقة وغابت فنون الحوار وتلاشت قيمة التحقيق الجرئ المفيد مع اهمال كامل لبقية أشكال العمل الصحفى - تحول القلم الذى أورده الله فى كتابه الكريم قسما « نون والقلم وما يسطرون » من أداة للتعلم والتعليم الى سلاح قاتل ووسيلة ارهاب ويستخدمه كثير من الذين يحملونه لتنفيذ الأجندة الخاصة والمرامى السوداء وتصفية الخصومات وتوجيه الأذى للعباد. *كانت الموضوعية هى الأساس وكان احترام مشاعر الأخرين وتقديرهم هو الأصل فى الممارسة وكانت المعرفة والرزانة والالتزام والأمانة والصدق والأدب المهنى هى التى تحكم الأداء الصحفى وهى المعيار الوحيد الذى يقاس به الجودة والمردود وقتها كانت رسالية المهنة هى المبدأ الأساسى والكبير الذى لا يقبل النقاش - حليل أيام زمان . *نتأسف كثيرا ونحزن من الأعماق ونحن نتابع التغيير « الجذري » والتحول الكامل والشامل و السالب الذى حدث فى الأداء العام للصحافة وتحديدا الرياضية منها - فقد رحلت الموضوعية الى غير رجعة وتم دفنها ولم تنظم لها أى مراسيم عزاء وأصبح الجنوح والتلفت والتعصب هو سيد الساحة ومصدر النجومية - تلاشت الخطوط الحمراء وأيضا البيضاء واختلطت الأوراق واختلت المفاهيم وتغيرت المعانى السامية والثابتة بصورة غريبة حيث أصبح النقد الهادف المصحوب بالأدب والمعزز بالمنطق لا أثر له وحلت مكانه الاساءات والشتائم والاتهامات وعبارات التحدى تحت اسمه - أى النقد - تحولت حرية التعبير من قيمة اضافية الى فوضى « واياك اياك ان كنت مسئولا أو فى موضع انتقاد أن ترفض الاساءات والاتهامات والشتائم المكتوبة أو حتى تتذمر منها بل ممنوع ومحرم عليك حتى - الأنين من ألم الاساءة والتجريح والمهانة والتعدى الذى يأتيك من الأقلام - لأنك وان فعلت فانهم سيقولون عليك لا تتحمل النقد وصدرك يضيق بالنقد ذرعا وان كنت لا تتحمل أمشى بيتكم لأن المنصب العام يحتم عليك تقبل النقد علما به أن ما يوجه لا علاقة له لا بالنقد ولا بالأدب بل هو مجرد انطباعات شخصية قائمة على خلافات قد تكون شخصية أو رأي مسبق لا علاقة له بالواقع ولا بالنقد ولا بالأدب ولا حتى مهنة الصحافة. *الان تسيطر العصبية ويتوهج نجوم النعرات وهواة الفتن والقطيعة والتعدى والذين يعانون من مركبات النقص والعُقد حيث يكثر ويتزايد التعدى على حرمات ومشاعر الناس لمجرد أن هناك مساحات فارغة يجب أن تملأ باى شكل - فلا موضوعية ولا أخلاق أو تقدير للاخرين ولا احترام أو اعتبار لقيود وأحكام وأدب وأصول رسالية هذه المهنة والتى تعانى الأن كثيرا من خلل كبير أصابها وأمراض عديدة ألمت بها - فالذى يتقيد بالموضوعية أصبح مثاليا وضعيفا لا قيمة له والمنفلت الذى يسئ للأبرياء ويشتم ويتهم ويتعدى أصبح هو النجم وهو الأقوى والمطلوب كيف لا وهو لا يخشى - أى شئ - ولا حتى التحذير والعقاب الالهى . *وفى ظل الوضع الجارى الأن وخاصة من الذين تقع على عاتقهم مسئولية ضبط ورقابة هذا المجال فالمتوقع أن نصل لمرحلة الانهيار الكامل فنحن الأن نعيش التراجع والتدهور - وما دام أن الجهات الرقابية والعقابية المسئولة أمام الله وأمامنا والتاريخ تمارس الصمت وتتمسك به تجاه هواة التفلت ومادام أنهم يتهاونون مع الذين يجتهدون فى صناعة العصبية والنعرات والفتنة وتدمير استقرار المجتمع ولا يتحركون لايقاف الظواهر الخطيرة ولأنهم يتراخون فى حسم الفوضى وردع دعاتها فمن الطبيعى أن يتمادى « الذين نعنيهم » . *أذكر أن المرحوم واستاذ الأجيال هاشم ضيف الله « يرحمه الله ويتقبله قبولا حسنا » وفى حوار أجريته معه فى بداية التسعينيات ونشر فى صحيفة نجوم الرياضة وكنت وقتها أتولى منصب مدير تحريرها قال فى اجابته عن سؤال « ماهى المواصفات الواجب توفرها فى الصحفى » فقال أولا يكون مؤهلا تربويا واجتماعيا وأخلاقيا و أن يحترم نفسه ثم الاخرين حتى يكون محترما لديهم ، والاحترام هو أن تكون موضوعيا وصادقا وأمينا ورزينا ولديك أخلاق ومجتهدا وعارفا ومطلعا حتى تقنع المتلقى، وعلى الصحفى أن يعكس حسن تربية أسرته له وأن يقوم بواجبات التبشير والتبصير والتوجيه بالطريقة التى تجعل القارئ يستفيد وأن يكون ملتزما بأدب الصحافة وخصوصيتها من واقع أنها مهنة رسالية تمنح المنتمى اليها صفة الأساتذية على اعتبار أن الصحفى أستاذ يعلم المجتمع ويثقف أفراده ويوعيهم وينبههم وأن كل من يحاول استفزاز الناس والسخرية منهم ونشر الخبيث واستفزاز الاخر فهو غير جدير بالبقاء فى الدنيا ناهيك أن يكون صحفيا » - وأكتفى بما قاله أستاذ الأجيال وأهديه للكل عسى ولعل أن يغيروا من نهجهم وسلوكهم المهنى.