اعتادت منابر القاهرة الفكرية والسياسية على استقبال السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي وإمام الأنصار في السودان.. حيث يُستقبل بترحاب كبير، فتفتح له القاعات وتحتشد للقائه أعداد مقدرة من قطاعات مختلفة من النخبة المصرية، طبقا لطبيعة الجهة الداعية ونوعية اهتماماتها.. وغالب هذه اللقاءات تتم بمبادرات من القائمين على هذه المنابر بمجرد علمهم بوجوده في القاهرة, وفى أحيان أخرى قليله يتم ذلك بمبادرات أو بإيعاز مهذب من بعض المقربين منه أو من محبيه. ودائما ما يُستمع للسيد الصادق بإصغاء وتثير أقواله وأفكاره شهية الكثير من الحاضرين للاشتباك معها تأييدا أو تفنيدا .. ويعود الترحيب الذي يلقاه السيد الصادق إلى عدة أسباب يأتي على رأسها أن الرجل مثقف كبير وغزيرا لإنتاج في شتى المجالات الفكرية والسياسية والثقافية، كما أنه صاحب حضور خاص ويمتع بقدرة كبيرة على صياغة أفكاره بشكل موجز ذا بناء منطقي متسلسل يراعى طبيعة الحضور، ويأخذ في الاعتبار عدم إلمام الكثير منهم بتفاصيل ودقائق الأوضاع السودانية، فيعطى عرضا عاما يضمنه أفكاره ومواقفه ورؤيته للتطورات.. وبعد ذلك هو أيضا صاحب قدرة على الإصغاء بقدر كبير من التواضع، وقد يصادف أحيانا أن يتحدث بعض الحضور المصريين بمعلومات غير دقيقة، أو يُظهر بعض المشاركين من السودانيين قدرا من العدائية في الحديث أو التعليق .. ولكنه يقابل ذلك دائما بسعة صدر وصبر طويل ويحرص على التعليق والتصحيح ، ولا يلجأ أبدا إلى التجاهل أو القفز فوق الأسئلة والتعليقات، أو محاولة التقليل من شأن منتقديه، بل يتعامل دائما باحترام ويتعاطى مع الأفكار المقابلة بقدر من الندية حتى لو كانت بسيطة أو سطحيه.. وتلك في الحقيقة من شيم الكبار. بالإضافة إلى ما سبق يتمتع السيد الصادق فوق كونة مثقفا رفيعا، بأنه صاحب كاريزما خاصة تنبع من سماته الشخصية، وأيضا من التاريخ الهائل الذي يستند إليه كونه حامل لواء الحركة المهدية وطائفة الأنصار، فهو يمثل زعامة الجيل الرابع من أبناء هذه الحركة التي غيرت تاريخ السودان، وقد نهض بهذا العبء بما يتوائم مع روح العصر ومتغيراته. ويحضرنى في هذا المجال ما ذكره هو ? باعتزاز- أكثر من مرة في حواراته الصحفية، عن حكاية مرضه وهو طفل صغير، وإشفاق جده الإمام عبد الرحمن الذي برر شعوره هذا واصفا الصادق بأنه « الذي سوف يسد فرقتي « أي الذي سوف ينهض بعبء القيادة والتجديد .. وقد فعل. وفى هذا الإطار نجد أيضا أن السيد الصادق يحمل تجارب متطاولة في الحكم والمعارضة معا، حيث تسلم رئاسة الوزراء في السودان مرتين، وقاد معارضة سلمية ومسلحة، وانتهى إلى نبذ العنف كوسيلة للتغيير وظل طوال الوقت من دعاة الديمقراطية.. وهذا المزيج المتفرد من التاريخ والزعامة والفكر قل أن يجتمع في شخص واحد على امتداد الساحات العربية . والشاهد أن السيد الصادق ذا جاذبية أيضا لوسائل الإعلام، وهو يحرص بشكل واع على توظيف هذه الخاصية في القيام بأكبر نوع من التعبئة خلف مواقفه السياسية، حيث تتجلى خبرته السياسية في عرض هذه المواقف باعتدال وبصورة خالية من الضغائن الشخصية، الأمر الذي يجعلها أكثر قبولا ومصداقية.. ففي زيارته الأخيرة للقاهرة- على سبيل المثال - والتي أعقبت الانتخابات السودانية قدم السيد الصادق ما يقرب من خمسة عشر لقاءا وندوة وحديثا متلفزاً في أماكن وجهات مختلفة.. كان لي حظ المشاركة المباشرة في ثلاثة منها: في إتحاد الأطباء العرب، والمجلس المصري للشئون الخارجية والأهرام.. وهذا اللقاء الأخير الذي استضافه وأداره الكاتب الكبير الصديق نبيل عبد الفتاح كان ذا طبيعة نوعية حيث تناول مستقبل الحركة الإسلامية في السودان بحضور عدد مقدر من المهتمين بالمجال الإسلامي في مصر، وسوف تكون لنا عودة لهذا اللقاء. السيد الصادق يعكس أيضا صورة طيبة عن السودان ونخبته بشكل عام، فهو متابع لكل التطورات الإقليمية والدولية بل ومتفاعل معها حضورا وإسهاما .. ولديه دائما مواقفه الخاصة حول القضايا المطروحة ، ويتسم طرحه بشكل عام بالمرونة والاعتدال .. هو أيضا حريص على ارتداء زيه الوطني الأنيق بطريقته المميزة في وضع العمامة، وفى زيارته الأخيرة لنا في الأهرام جاء مرتديا بدلة إفرنجية ذات لون داكن مستخدما غطاء للرأس من نفس اللون عبارة عن «طاقية» تشبه الكاب.. من تلك التي يرتديها أحيانا مع جلبابه السوداني.. كنا في صالون الاستقبال قبل بدء الندوة، فسألته : عهدناك بزيك الوطني يا السيد الإمام .. فلماذا بدلت اليوم، قال: لكي لا يكون هناك ربط بين شكل الزى وطبيعة الأفكار.. وتبادلنا حديثا قصيرا في هذا الشأن.. وكان من بين ما قاله أنه يحاول أن يقدم بعض التطوير في الزى السوداني، وأنه يرى أن هندام الرجل وطريقة وضعة لعمامته تعكس جانبا من شخصيته وطريقة تفكيره وتعاطيه مع الأشياء. وقد لحظت دائما أن الكثير من المثقفين المصريين يحارون في كيفية مخاطبته.. حيث يناديه البعض بدولة الرئيس.. ويلجأ البعض إلى لقب « فضيلتك» باعتبار موقعة الديني، ويناديه بعض ثالث «بالحبيب الإمام» .. وربما أخذوا ذلك من بعض المراسلات التي ترد إليهم من مدير مكتب السيد الصادق.. وهم لا يدرون أن هذه طريقة الأنصار في مخاطبته .. ومن بين هؤلاء السفير عبدالرؤوف الريدى رئيس المجلس المصري وسفير مصر الأسبق في واشنطن. هذه هي الملامح العامة لحضور السيد الصادق في مصر، وقد يكون لكثير من السودانيين رأى آخر في الصادق المهدي أو أفكاره أو سمات سلوكه السياسي التي يصفها الكثيرون بالتردد ويرون فيه تجسيدا للقوى التقليدية والطائفية التي يجب تجاوزها.. ولكن هذا يعود إلى طبيعة الحياة السياسية والفكرية فى السودان، والتي تجرف فى طريق الخصومة السياسية الكثير من الأشياء ، حيث يبقى السيد الصادق معلما للاستنارة وصماما للأمان فى سودان تتهدده الفوضى.. وفى الحقيقة فإنني أشعر من خلال المتابعة القريبة فى السنوات الماضية أن السيد الصادق قد تعرض بلا شك لحملة منظمة من الحركة الإسلامية الحديثة سعت للنيل منه لحساب أطروحتها الخاصة باعتبارها التمثيل الأكثر صحة او نقاء للحركة الإسلامية.. وهذه قصة أخرى. نعود إلى القاهرة .. حيث القضية دائمة الحضور فى حوارات السيد الصادق هي تلك المتعلقة بالعلاقة ذات الطابع السلبي تاريخيا بين طائفة الأنصار ومصر، والتي دائما ما تكون محل تساؤل، والتى يقابلها دائما بنفس الإجابات التي كانت تقف عند حد التفسير والتوضيح، والتي تجاوزها أخيرا إلى الحديث المباشر الصريح، حيث ذكر حين استقبلناه الأسبوع الماضي فى المجلس المصري للشئون الخارجية « نحن دعاة التيار الاستقلالي فى السودان والذين كان لنا موقف من طبيعة العلاقة مع مصر .. نقول لمصر الآن نحن نطلب تواجدك فى السودان « وإن كان قد أشار من قبل وبصور مختلفة إلى سعيه لإحداث نوع من التغيير فى طبيعة هذه العلاقة .. ومن الواضح أن السيد الصادق يسعى إلى فتح مسار أو رافد جديد فى العلاقات المصرية السودانية، للتواصل مع مصر الدولة التى بدت فى كثير من الأحيان منصرفه إلى الحركة الاتحادية أو الحاكمين من العسكر، موصدة أبوابها دون حزب الإمه الذى كان يقابلها بالمثل.. من الواضح أيضا أن المهدي يسعى إلى إحداث هذا التغيير عن طريق التواصل مع النخبة والتى قد لا تكون صانعة للقرار السياسي في مصر ، ولكنها تؤثر فيه بدون شك بأشكال كثيرة غير مباشره، إلا أن التغيير فى حالة حدوثه عن هذا الطريق يكون أكثر ثباتا وديمومة .. وهذا الطريق بطبيعة الحال هو الأصعب الذى يستلزم الجهد والوقت معا، ولكن يبدو أيضا أنه الخيار المتاح باعتبار أن دوائر إتخاذ القرار تنزع دائما للتعامل مع ماهو معروف ومستقر ومجرب، ولذلك ربما تتردد فى مقابلة نداءات وتحركات السيد الصادق بما تستوجبه من إنفتاح وتعاون.. وربما تأخذ فى الاعتبار أيضا أن ما يقوله السيد الصادق الآن هو حديث يدور فى الدوائر الضيقة للنخب ولا يتعداها إلى وجدان الأنصار كقوة سياسية واجتماعيه.. وهذا العامل الأخير قد يكون صحيحا إلى حد كبير، فقد التقيت فى إحدى المرات القيادي المعروف عبد الرسول النور فى إحدى ندوات مركز دراسات المستقبل بالخرطوم وكان حديثه عن مصر والعلاقة معها جافا وخشنا (حتى لا أقول عدائيا) .. ولم يأبه حتى بمراعاة الاعتبارات التي يتم الحرص عليها عادة فى صياغة المعاني فى المنتديات العامة . على حاشية هذا الموضوع أتذكر- إن لم تخني الذاكرة - مساجلة دارت بين الكاتب السوداني المعروف الدكتور عبدا للطيف البونى، وبين السيدة رباح الصادق المهدي حيث ذكرت رباح أن السيد الصادق معروف لدى النخبة والشعب فى مصر أكثر من الحليف التاريخي لمصر، فرد الدكتور البونى بأن القرار لا يصنعه هؤلاء.. هذه المقولة صحيحة فى ظاهرها، وان كانت أيضا تحتاج إلى مراجعة.. فما يقوم به السيد الصادق مُرحب به.. وهو يصب فى الصالح المشترك لمصر والسودان معا، فهناك من المتغيرات الجذرية الكثير مما يحتاج إلى رؤية جديدة وإقترابات تتجاوز الماضي لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.. وهى كثيرة ومنذرة بالخطر . «نقلا عن الأهرام الاقتصادي»