تحقيق - أمين أحمد ود الريف: اعتاد عبد السلام حسين على أن يقف كل يوم عند المغيب ينظر إلى لافتة محله المضيئة وقد كتب عليها (السلام للأقمشة). لحظات تجتمع فيها كل ذكرياته لأيام الماضي وهو ينظر إلى الأضواء تتلألأ حول اسم متجره ويسترجع خلالها أيام الحرب والقتل والدمار حينما كان مقاتلاً. فكثير من أصدقاء عبد السلام فقدهم في الحرب وآخرون أجلستهم الاعاقة وآثر البعض الآخر أن يواصل في مشواره العسكري. لكن عبد السلام قرر أن يحول حياته بشكل كامل، وان يعود للحياة المدنية فهو الآن أب لثلاثة أطفال ويمتلك متجراً للأقمشة بعد أن تم ادماجه في الحياة المدنية وفقاً لاتفاقية الترتيبات الأمنية المرتبطة باتفاقية أبوجا للسلام، بعد أن قضى وقتاً قصيراً في قوات الشرطة هو وآخرون بلغ عددهم «1740»، ولكن عبد السلام وبعد شهرين قرر العودة إلى الحياة المدنية. غير ان أحداث التخريب التي صاحبت الاحتجاجات التي اجتاحت أحياء الخرطوم جعلت عبد السلام يسأل لماذا تحولت هذه الاحتجاجات إلى هذا الشكل العنيف؟ وهل عادت اجواء الماضي تلاحقه مرة أخرى بتساؤلات تظل حاضرة في اذهان الكثيرين خصوصاً من كانت لهم بالحرب الأهلية تجربة سابقة أو من ارتبطت حياتهم باحدى المليشيات الكثيرة التي صاحبت النزاعات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان. ويجمع كثير من الخبراء العسكريين والسياسيين على ان بقايا الحرب الأصلية والنزاعات المسلحة في دارفور والمنطقتين النيل الأزرق وجنوب كردفان تلقي بظلالها على الحياة في السودان بأشكال مختلفة. وان كثيراً من أوضاع المقاتلين في هذه المناطق لم توفق تماماً، وان ذلك يرجع إلى أسباب عديدة بعضها يخص مراجعة عمل وبناء المليشيات قبل تفكيكها والآخر يختص بارتباطات عمل الترتيبات الأمنية وأشكال تنفيذ هذا على الأرض. بناء الجيوش والاحلال والابدال وبحسب الخبير الأمني العميد معاش حسن بيومي ل «الصحافة» فإن من الأسس العلمية في بناء الجيوش وجود خطط الاحلال والتدريب على التوظيف الاستراتيجي والامداد اللوجستي. وهذا يعني أن يتدرب المنتسبون للوحدات العسكرية على تطوير المهارات في المهن المدنية التي تحتاجها القوات أثناء عملها العسكري والتي تكون مهارات مهنية يستفيد منها المنتسبون للخدمة العسكرية بعد خروجهم منها ودخولهم في الحياة المدنية، فتجد منهم العمال المهرة والمهندسين والاقتصاديين والوظائف المكتبية والخدمات الصحية. ويتم بناؤهم على تطوير هذه المهارات إلى جانب التدريب على العلوم العسكرية وفنون القتال والتدخل في بعض الحالات التي يصعب فيها وجود المدنيين، ففي أحداث تمرد مالك عقار في النيل الأزرق تدخل الجيش وقام بأداء المهام المدنية مثل تشغيل الأفران وتوفير الخبز للمواطنين وبناء الكباري أثناء الكوارث الطبيعية وإجلاء المتأثرين في حالات السيول. ولكن الملاحظ أن المليشيات في النزاعات في السودان لا تقوم بهذه الوظيفة، فهي لا تهيئ المنتسبين إليها للعودة إلى الحياة المدنية وكأن القتال هو الغاية النهائية. أو انها اصلاً من مقاتلين يعتبر القتال جزءاً من ثقافتهم السلوكية، وتزيد هذه الثقافة رسوخاً عندهم ويصبح من العسير اندماجهم في المجتمع، ويعتبر هذا خللاً في بناء هذه القوات. ويذهب الخبير الأمني اللواء عثمان السيد الذي له خبرات واسعة مع الحركات الثورية بشرق إفريقيا إلى القول بأن بناء الحركات الثورية لا يعتمد على القتال وحده، ويقول: لقد كانت حركات التحرير الثورية للمقاتلين تقوم على تدريب المقاتلين على صناعة الحياة والاحتياجات لثوار الجبهة، وتقوم بتأهيلهم أكاديمياً ومهنياً، وفقاً للاحتياجات الدائمة للمواطنين والثوار. ولذلك بعد الحرب وجدنا أن هؤلاء الثوار كانوا مؤهلين للمشاركة في الحياة المدنية بخبراتهم الثورية. غير أن المحلل والخبير الاستراتيجي محمد حسن المجمر ذهب في تشريعه لبناء العلاقات ما بين هذه المجموعات المقاتلة وعلاقتها مع المجتمع بعد عودتها من الحرب إلى خلل في تجربة الدمج والتسريح التي تمت في جنوب كردفان ودارفور بما يشبه القطع، وقال المجمر يمكننا تقسيم ذلك إلى جزءين، الحالة الأولى تجربة المليشيات في دارفور وفقاً لاتفاقية أبوجا للسلام، وفي هذا الحالة تمت المماطلة في عمليات الدمج وإعادة التسريح من قبل أركو مناوي في قضية تسليم الكشوفات الحقيقية لقواته لاكمال عمليات الدمج والتسريح، وذلك لأن مناوي لم يكن يريد أن يتخلى عن جميع قواته وأراد الاحتفاظ بها ليواصل في السلطة، ومثل وجود هذه وحدات من هذه القوات في الخرطوم مهدداً أمنياً، وحتى هي في الزي العسكري وكانت مصدراً للمتاعب للسكان في المدينة، وأما في ما يتعلق بالفرقتين التاسعة والعاشرة فإن العمليات العسكرية في 2011/6/6م مثلت نهاية لعملية الدمج الاجتماعي للقوات التابع للحركة الشعبية بجنوب كردفان، وتركت عمليات خطط الدمج والتسريح نتائج سالبة تمثلت في دخول العسكريين السابقين في هذه المليشيات في الحياة المدنية دون أن يمروا بعمليات التأهيل الاجتماعي والنفسي المطلوبة، مما صعب حالة اندماجهم في الحياة اجتماعياً واقتصادياً. وذلك لعدم وجود فترة زمنية وسيطة لإعداد قدرات ومهارات الحياة المدنية. وأدى ذلك إلى عدم قدرتهم على الحياة داخل المدن المنظمة التي تسود فيها روح القانون مما دفعهم إلى الابتعاد نحو اطراف المدن. وقد وفر ذلك بيئة مشابهة للبيئات التي جاءوا منها، ويمكن القول إن استدعاء حالة أحداث التخريب وسط المتظاهرين في الأحداث الأخيرة في الخرطوم تمثل أنموذجاً ذهنياً لدى لأولئك المقاتلين لما يجري في مناطق القتال، وهذا يعني فشل تجربة الاندماج والتسريح، ولا يمكن إجمال الفشل على كل الاتفاقيات، فهناك تجربة اتفاق حركة التحرير للعدالة الذي تم في الدوحة ومازال يثبت أنه الأفضل في هذا الجانب. بيد أن تجربة الاندماج المجتمعي للمقاتلين لم تكن وحدها هي التي أدت إلى الأحداث الأخيرة في الخرطوم، فوجود مظاهر حروب ونزاعات مسلحة في أكثر من مكان من أرجاء البلاد أدى إلى زيادة وتيرة العنف بانتقال التأثير. ويرجع ذلك الخبير الأمني بيومي إلى ان عملية ترييف العاصمة وانتقال أعداد كبيرة إليها من المناطق التي تأثرت بالحرب أو العاطلين عن العمل والأجانب من دول تعيش نزاعات وحروب داخلية، وكل ذلك يجعل المدينة تعيش في برميل من البارود. ويذكر أن أعداد المقاتلين الذين تم دمجهم في القوات النظامية وفق اتفاق الترتيبات الأمنية لاتفاقيتي أبوجا والدوحة منذ مارس 2008م وحتى ديسمبر 2011م قد بلغت «80» ضابطاً من رتبة عقيد وحتى رتبة الملازم، و «1740» من الرتب الأخرى من رتبة المساعد وحتى رتبة الجندي، وبقوات الشرطة «18» ضابطاً من رتبة المقدم وحتى رتبة الملازم و «350» من الرتب الأخرى من رتبة المساعد وحتى رتبة الجندي، حيث تم تدريبهم وتأهيلهم وادخالهم في الوحدات العسكرية العاملة في ولايات دارفور، وأفردت عمليات الاستيعاب أعداداً أخرى من المسرحين غير اللائقين طبياً أو غير الراغبين في الخدمة العسكرية، وتقدر أعدادهم بنحو أربعة آلاف فرد تقريباً من جميع الحركات، غير ان أعداد المدمجين في المجتمع من الحركات المسلحة في دارفور لا يمثل كل المقاتلين الذين حملوا السلاح، فهنالك مقاتلو الشرق والنيل الأزرق وقوات الفرقتين التاسعة والعاشرة في جنوب كردفان.