كتبت في هذا الموضوع الشائك من قبل..(موضوع الكشف عن قبور الذين راحوا ضحية المحاولات الانقلابية) ، ولا أرى حرجاً في إعادة الطرق على الموضوع بحسبانه بادرة تسامح وطني نحتاجها في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها البلاد، وهي حتماً لن تعيد الأحباء من الآباء والأبناء الذين طواهم الموت قبل عشرات السنين ولكنها قد تخفف من اجترار آلام الفقد ومرارة الأحزان المتراكمة. لقد كان نظام عبود الاستثناء الوحيد في هذا الأمر ، فعلى الرغم من جرمه بإعدام العسكريين الخمسة علي حامد والصادق وكبيدة وعبد البديع وعبد الحميد على أعواد المشانق متجاهلاً قواعد الشرف العسكري بإعدامهم رمياً بالرصاص،إلا أنه قام بتسليم جثث الضحايا إلى أهلهم وذويهم.ويحمد للأنظمة المدنية التي توالت على حكم السودان أن سجلها في هذا الشأن كان نظيفا،فلم يحدث أن أقدم نظام مدني على إعدام الانقلابيين،حتى وان قُبضوا متلبسين،وربما يرى البعض أن هلاك الأنظمة المدنية كان بسبب هذا التسامح مما أغرى بعض المغامرين بالانقضاض عليها. لا ادري لماذا أضحى الأمر كعرف سياسي منذ الحقبة المايوية.. عرف يقضي بعدم الكشف عن موضع تلك القبور وكأنها من أسرار الدولة المقدسة؟، وإذا سلمنا جدلاً بأن الانقلابات العسكرية هي مغامرة سياسية تنص قواعد (اللعب) فيها على أن الفائز يحصد السلطة بينما الخاسر يحصده الرصاص،فلنا أن نتساءل ما ذنب اسر هؤلاء حين يحرمون من معرفة قبور أحبائهم بكل ما يعنيه هذا الأمر من تضميد معنوي لجراحات الحزن واستعادة التوازن النفسي؟ إن هذا الأمر لا يعني حقبة الإنقاذ الأولى فحسب ولكنها سلسلة متصلة من الأحزان..منذ انقلاب هاشم العطا وانقلاب حسن حسين والذي تمت محاكمة قادته وإعدامهم بمدينة عطبرة ، وانقلاب محمد نور سعد والذي كان من ضمن ضحاياه إلى جانب العسكريين كوكبة من شباب الحركة الإسلامية وانتهاءً بمحاولة انقلاب رمضان. إننا نأمل أن تجئ مبادرة في هذا الشأن من قبل رئاسة الجمهورية ونحن نتطلع لتحول ديمقراطي قد نتفق أو نختلف في كماله،وذلك بتشكيل لجنة وطنية تتابع هذا الأمر في مختلف الحقب السياسية، خصوصاً وان بعض الشهود ما زالوا أحياء، فمثل هذه المبادرة تشكل رسالة تسامح سياسي نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى. إن رمزية الكشف عن هذه القبور قد يراها البعض خيوط دخان واهية لا تقدم أو تؤخر في ليل الأحزان الطويل الممتد،وقد يقول قائل ما جدوى كل هذا الأمر برمته ؟ وهل معرفة القبور وبقايا الأجساد ستعيد الحياة إلى هؤلاء ؟ولكنا نقول أن جمر الفقد لا يحس بلسعه إلا من يمسك بنيرانه، ومنهم الابنة التي تركها الأب وهي طفلة.. والآن هي أم تهدهد أطفالها على طيف الأب الذي لم تره، ومنهم الأم والأخت التي ثُكلت في الابن أوالأخ الشاب ، والزوجة التي ترملت وتحملت عنت تربية زغب الحواصل من الأبناء... أو لا يستحق هؤلاء ويستحق معهم الوطن رسالة التسامح هذه؟!