٭ من نِعم الله علىَّ ان مكنني من رؤية الفاشر ابو زكريا واداب العاصي والمكوث بها ردحاً من الزمان في عز الشباب عندما اذيع اسمي طالباً في دارفور الثانوية بالفاشر في بداية السبعينيات من القرن الماضي، لم اصدق النبأ لأن الفاشر كانت بالنسبة لي كأنها حلم في الكرى، لبعدها من الضعين،حيث أبناء الضعين غالباً ما يوزعون في مدرسة نيالا الثانوية فهى الأقرب لنا، ولأن الفاشر كانت مركز التاريخ الدارفوري وبوصلته، ومقراً لسلاطين دارفور وقيادة الاقليم الحربية والسياسية والاقتصادية، ولأن سمعة علي دينار كانت الاقرب الى أذهاننا من حيث السلب والايجاب، فكنت في غاية الفرح لقبولي بدارفور الثانوية وتمنيت بين غمضة عين واشراقتها أن أكون بين اهلي في الفاشر لاشتم عبق التاريخ، وارى اعمدته التليدة من خلال قصر السلطان علي دينار الذي كنا نسمع عنه بأنه بُنى بمرقة الثيران ونصبت اعمدته من الصندل الفواح. لقد تم لي ذلك والحمد لله، لم يخذلني تقديري في كل شيء من حيث طبيعة البلد التاريخية، مدينة كاملة بنيت بين الروابي والهضاب، مناظر تكاد تفتك بالألباب، زين الفاشر في ذلك الزمن الجميل طيبة أهلها وحسن معشرهم، أُسر متراصة متجاورة في توادد وتراحم رغم إختلاف ألسنتهم وألوانهم وقبائلهم واديانهم أحياناً، لكن تجمع بينهم لهجة الفاشر الخاصة ولا يجيدها إلا اهل الفاشر، يستوي في ذلك الفاشري الدنقلاوي والفوراوي والعربي، كما عُرفت جوبا بعربي جوبا فإن الفاشر عرفت بلهجة الفاشر، ومن خلال هذه اللهجة يصوب أهل الفاشر نكاتهم اللاذعة كالسهام للشخص الذي لا يرغبون فيه خاصة الحكام المستوردين، وفي ذلك تكثر النكات ولكني أشير الى نكتة واحدة، فقط جاء أحد الحكام وهو بروفيسور في جامعة، فقال لهم يا ناس الفاشر احمدوا ربكم أن حكمكم بروفيسور، فجاءت النكتة كالآتي: احد المواطنين في الفاشر سأل جاره ما معنى كلمة بروفيسور، رد عليه جاره معناه أن رجلاً قرأ وقرأ وكملا قراية لمن (شوطنت)!! منذ أن عُمرت الفاشر في عهد السلاطين الاوائل كان الهدف هو تجميع كل القبائل في بوتقة الإسلام وكفى، لا فرق بين مواطن وآخر إلا بالولاء والعمل الصالح، وعندما كانت الدنيا بخيرها كانت دارفور آمنة لا سيما في زمن السلطان عبد الرحمن الرشيد إذ كانت الظعينه تتحرك من اقصى شمال دارفور الى جنوبها لا تخشى إلا الله والذئب على بعيرها، والظعينة هنا هى المرأة التي تسافر وحدها. وكانت العدالة منقطعة النظير بين الحكام حيث كانت سحابة الشريعة الاسلامة متدلية تظلل ارض دارفور الخيرة. عمت سمعة دارفور الأرجاء فجاءت للفاشر الاسر والقبائل من كل مكان في السودان، بل ومن خارج السودان، فعندما كنت في الفاشر أثناء الفترة الطلابية قابلت بعض الاسر وسمعت بأسر أخرى عريقة في الفاشر واذكر على سبيل المثال اسرة علي دينار، وأسرة السلطان ابرهيم قرض، واسرة العمدة صالح عبده الفاشر، واسرة الملك محمود رحيمة الله، جد الدكتور يحيى محمد محمود الملك الخبير الاقتصادي المعروف، وأسرة المقدوم يوسف، وأسرة آل فضيل ومنها جاء البروفيسور سليمان صالح فضيل النطاس العالمي البارع الذي توج أخيراً ضمن اميز عشرة أطباء في العالم في جراحة المناظير، وهو الافريقي والعربي والمسلم الوحيد والاصغر سناً. وآل الشريف عبد الرحمن باكوين، وآل ابو اليمن وآل بابكر نهار والد الدكتور والوزير احمد بابكر نهار، وآل عبد الكريم نهار الرجل الورع التقي والصديق رغم فارق السن وهو ليس شقيق بابكر نهار، وآل ابو سم ومنهم الصديق الباقر محمد علي ابو سم وآل محمد ود عثمان العمدة وهو جد الكاتب الصحفي علي ابو زيد، ووالده كان شيخ سوق الفاشر وآل علم الدين، والاستاذ الكبير مربي الاجيال عبد الرحمن مختار والد الفريق الطيب والفنان الموسيقار حافظ، وآل السناري والريح السنهوري والد صديقنا مدثر الريح السنهوري، وآل احمد ابو عشرة وعثمان التهامي صاحب سفريات التهامي. ولقد ابلغني احد الاخوة من الفاشر بأن التهامي اوصى بأنه اذا مات يجب ان يدفنوه في الفاشر، ولكن جاءته المنية في الخرطوم حيث أبناؤه ذهبوا للفاشر لتقبل التعازي هناك. ومن اسر الفاشر العريقة كذلك آل الحاج عوض بلال وعبد الرازق التويم وآل الكرف وآل بابكر كرم، واعتذر بشدة للاسر التي لم استطع ذكرها ليس لعدم معرفتي بها وإنما للمساحة المحدودة وضيقها المأذون به في المقال. لم يكتف أهل الفاشر بالسودانيين فقط وإنما هناك أسر عاشت معهم وبينهم وبكل حنية وهم من خارج الملة، كالخواجة، مماكوس باخوم وبسكالي والشامي رفعت لمعي، طبعا ذكرت جزءاً من اسر اولاد الريف ولكن ان لم اقل ابناء الريف فكثيرون لا يعرفونهم فهؤلاء نزحوا مع الجيش التركي وقبله من الريف المصري كمهندسين وفنيين في مهن كالتجارة والحدادة والبناء فلهم فضل عظيم على اهل دارفور، امتزجوا مع الفاشر وقريبا سمعت بمحاولة استقطابهم من قبل بعض الجهات المصرية ولكنهم رفضوا ذلك البتة. لا يفوتني ان اذكر اسرة القاضي ادريس واسرة القائد رمضان برة. مدينة كالفاشر يجب ان يكون لها دورها وحضورها الوطني لما لها من سابق خبرة في فن الحكم والسياسة، وعلوم التجارة.. على فكرة حتى نهاية الخمسينيات لا تعطي رخصة لاي تاجر الا بعد ان يأخذ كورسا في فقه البيوع ! يا إلهي ما هذه الحضارة الاسلامية الزاهية وكده التأصيل ولا بلاش! لكن للاسف رغم هذه الحضارة وهذا البعد التاريخي فإن اهل الفاشر لم يحظ احد منهم ان يحكم مدينته، بل ان احد الساخرين منهم قال لي نحن أخذنا حقنا عندما كان الحكم حكم الآن خليناه للقوازا والجلابا، فعددت له من ابناء دارفور وابناء الفاشر الذين حكموا الفاشر لم يعترف لي الا بإبراهيم سليمان «الفريق المتقاعد». حاولت ان اراجعه واقول له فلان وفلان كلهم من الفاشر فزجرني وقال لي كلهم قوازا.. فهذه من سخرية اهل الفاشر فإذا كانت هذه جهوية فهي جهوية هادئة ومقبولة، فالبلد يجب ان يحكمها ولدها وان لم ينفع فيذهب ويأتي آخر من المدينة حتى يستقيم الامر. عجبت فيما عجبت للفاشر واهلها ان احتال عليها لصوص اخذوا كل ما في ايادي اهل المدينة السمحة. وسمى المحتالون بسوق المواسير، حزنت جداً لاهل هذه المدينة العريقة كيف جار بهم الزمان، «اذا الزمان جارك أرنبة تأكل كلابك» إلى هذه الحالة وصل أهل الفاشر، أهل التجارة والدراية، الا يكفي أهل دارفور والفاشر خصوصاً الحروب والمعسكرات التي تطوقها؟ الا يكفي الغلاء الفاحش الذي ضرب بأطنابه البلاد؟، الا يكفي شح الامطار؟، الا يكفي الهلع والجزع الذي يخلع القلوب بسبب عدم توفر الامن للمواطنين في كل اصقاع القرى المجاورة للفاشر؟. هذا كله لا يكفي لازم تأتي بسوق المواسير حتى تكتمل الناقصة!!. هذا المقال ليس تحليلاً ونقداً لسوق المواسير لاني في حالة تجميع للمعلومات حتى عندما نكتب نتحمل مسؤولية ما نكتب ولكن كل الدلائل تشير الى ان سوق المواسير عمل ممنهج من جهات معلومة وما دام الامر بيد القضاء فلننتظر ما تسفر عنه التحريات، كل المطلوب هو ان تستعجل الجهات المختصة البت في الامر وان يكون كل شيء عياناً بياناً وهذا هو المتوقع في القضاء العادل. مقالي هذا فقط شذرات متفرقة عن اهل الفاشر وعن ماضيهم وكيف حالهم اليوم؟ نسأل الله ان يقيل عثرتكم يا اهل الفاشر يا ناس بالليل باريس، وبالنهار تضاريس!!