منذ نعومة أظافره، وسنيه الباكرة شعر بأنه يمكنه أن يعمل أشياءً مهمة وجميلة، فكان يرسم أحلامه وآماله وآلامه وحاجة شعبه وبيئته ووطنه بما يزخر من حضارات قديمة وثقافة وتراث عريقين، مستخدما أقلاماً من الفحم والخشب، وإذا تعذر ذلك اتجه إلى الطين، فصنع منه الفيل والنمر، فكانت حكاية حركة اليد عنده متطورة في توصيل الصورة الجديدة إلى ذهن المتلقي، فالإنسان والطبيعة والتاريخ.. هذا الثالوث بالإضافة إلى عقده الذاتية، جعل الفنان التشكيلي العالمي الدكتور راشد دياب، يبحث في تاريخ الثقافة السودانية، ويؤلف كتبا، منها «الفن التشكيلي في السودان»، حتى يعوض ما ينقصه في التقدير والتبجيل بصفته فنانا، فقادته عصاميته عبر جسر الفن إلى منفذ العالمية. الرياض: فتح الرحمن محمد يوسف وطفق يتحدث الفنان التشكيلي العالمي الدكتور راشد دياب ل «الصحافة»، وعيناه تحملقان في الفضاء السماوي الفضي، وتغزوان مدى ذكرياته وزمانه الأول الجميل متأملاً: «في ذلك الزمان البعيد، اكتشفت أنني لا استطيع أن أعيش دون أن أعمل أشياءً ممتعة لي وللآخرين. كنت استمتع حينما أعمل لوحة تشكيلية، فكانت تلك بداية وعيي التشكيلي المبكر.. هناك قدرة إلهية تسخر إمكانياتي وتركيبة عقلي في اتجاه معين، فوجدت نفسي أحب اللون بطبيعة الحال فأعطاني سرّه». ويزعم دياب أن فكرة التشكيل، تقوم على توفر عناصر معينة، أهمها، وجود رغبة لتصوير ذهني، يخرج في شكل لوحة فنية تشكيلية، ويعتقد دياب أن التشكيل عبارة عن ممارسة أزلية، تعبر عن محصلة لتاريخ ووجود الفكر الإنساني التأملي. وقال دياب: «أية مجموعة عندما تصل إلى أقصى درجات الثقافة والتحضر، بالضرورة تصل إلى مرحلة التأمل، والتأمل مرتبط بالمدينة، والمدينة مرتبطة بالعلاقات الخاصة جدا، إذ لا بد من أن توجد هناك علاقة للمدينة المفتوحة المرتبطة بوجود المتاحف، والتي تعبر عن واقع الأمة في كل الأمكنة والأزمنة الثقافية والفنية والموسيقية.. إلخ، كما هو الحال في الدول المتقدمة، بحيث تكون هناك مؤسسات ومدارس ومراكز تعلم الفنون». وأبان دياب أن تلك النشاطات المركبة من أولويات همومه الفنية في المرحلة القادمة. وعن تأثير الفن الإسباني في توجهاته الفنية، قال دياب: «سافرت إلى إسبانيا بمنحة من الحكومة الإسبانية، وكنت مهيأً نفسياً لأكسب قدراً من المعرفة، غير أنني وضعت هدفاً منذ البداية، هو ترجمة حبي لوطني السودان عملياً، إذ كنت أرى أن للسودان واجباً كبيراً عليَّ لا بد من أن أؤديه. فكنت أخشى ما أخشاه أن تتعلق جذوري بالأرض الإسبانية بصورة يصعب اقتلاعها، كما حصل لكثير من زملائي، القادمين من بلاد عربية وإفريقية أخرى. فخططت لكيفية تحقيق أهدافي، وأولها حصولي على شهادة الدكتوراة، فنلتها في «فلسفة الفنون السودانية»، وكنت خلال سني دراستي أعود للسودان كل سنة أو سنتين، لأعمل بحوثاً ودراسات بجانب جمع معلومات، فأتجول داخل السودان في شرقه وغربه وشماله وجنوبه، وأقوم بتصوير وتدوين ما أجد في تلك البقاع من فنون، ما جعلني أحافظ على هويتي الفنية السودانية». وقال دياب، إن تجربته الفنية، ارتبطت بثلاثة عناصر مهمة جداً لديه، وهي الواقع والحياة والطبيعة السودانية، حيث أنه أحبَّ الصحراء والنيل وأشكال وألوان الناس، كما أحبَّ الطبيعة البشرية والطبيعة الجغرافية، فكان ذلك بمثابة محفز قوي له في بداية تشكيل رؤيته الفنية. قال دياب: «كنت أمشي إلى النيل بصحبة أخي شمس الدين، ومن ثم أرسمه، حيث كنت ألاحظ انعكاسات الألوان والضوء والنيل، إذ كان الضوء يتغير في النيل على رأس كل لحظة، فيعطي ألواناً مختلفة، فكانت تلك أول تجربة لي مع لون الطبيعة. وكان النيل يتوشَّح بلون أحمر وأحمر فاتح، فذهبي، وفي المساء يتوشح بلون الفضة، ويضيف إليه اللون البني عندما ينتصف النهار، كما «يفور» النيل في زمن الفيضان فيعطي ألواناً أخرى.. كانت تلك أولى بدايات علاقاتي مع ألوان الطبيعة التي تسربت إلى مخيلتي الفنية، فاستعنت بها في رسم الكثير من الملامح والأشكال والقيم والأهداف والقضايا». وما زاد من خصوبة تربته الفنية، اشتداده بملاحظة أشكال وألوان من الطيور، التي تحاول أن تمرح على شاطئ النيل، وهي تزغرد وتشقشق وتزقزق، في تناسق وانسجام بهيج مع الطبيعة، «كما كنت ألاحظ «المراكب» وهي تشق عباب البحر، فينزل الناس منها عند المرسى ويركب آخرون». وكان دياب ومازال يدهشه منظر النيل وهو يضع حداً وفاصلاً بين اليابسة والماء، إذ كان هذا الفاصل يستوقفه ويملأه بالدهشة، «إذ كيف تقف الأرض عند هذا الفاصل مع الماء، فكانت تلك بمثابة حيرة ودهشة تجعلني أسائل نفسي: متى تبدأ الأشياء ومتى تنتهي؟! ومازلت حتى هذه اللحظة أبحث عن إجابة لذلك». وثمة شيء آخر مازال يملك لبّ دياب، ويعتبره أحد ذخائر تشكليته الفنية، وهو التراث القديم في السودان، بجانب الأدب والفكر والثقافة السودانية، وما تحمل من معانٍ ومضامين متفردة، بالإضافة إلى تجربته الذاتية بصفته فناناً، وربطها بالمجتمع وبالوطن، غير أنه عانى الأمرّين في فنه، ويقول دياب في ذلك: «عانيت كثيراً وأنا طفل فنان، وأنا فنان شاب، من التقليل وعدم التقدير من قبل الآخرين، إذ كان وقتها يعتبر الفنان «صعلوكا، صايعا»، لا يرجى منه شيء مفيد، فهو لا مهمة ولا مستقبل له، كما هو الحال عند الذين يتجهون لدراسة الطب أو الهندسة.. كان التعليم وقتها مزعجا. إذ أن الفنون المعترف بها عند المجتمع الفنون البصرية المرتبطة بالمجتمع ارتباطا مباشرا، وليس من مجال للفنون التي يصورها الخيال، وبالتالي الفنان ليست له قيمة في المجتمع. وبالرغم من أن المجتمع يرغب ويستمتع بالشعر وبالأغاني وبالألوان، غير أنه يرغب عن الفنان، مع أن الأخير- أي الفنان- متحكم في البيئة كلها، وفي أشكال الحياة سواء أكان ذلك في الصحراء أو الزراعة أو الجمال الذي يُصنع في داخل البيوت وخارجها». وهذه المفاهيم التي يعتقدها المجتمع في الفنان تزعج دياب أيما إزعاج، ما جعله يجتهد في كيفية العودة بالناس إلى قراءة أهمية الفنان والفن في حياتهم، الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. فالإنسان والطبيعة والتاريخ.. هذا الثالوث بالإضافة إلى عقده الذاتية، جعلت ديابا، يبحث في تاريخ الثقافة السودانية، ويؤلف كتباً، منها «الفن التشكيلي في السودان»، حتى يعوض ما ينقصه من التقدير والتبجيل بصفته فناناً قادته عصاميته إلى منفذ العالمية. وإيمانه بقيمة الفن في حياة الناس، جعله يقوم بتأسيس مركز راشد دياب للفنون، ليسلم الأجيال القادمة وثائق عن ثقافة عريقة لا تموت وحضارة قديمة مازالت تقف شامخة في وجه التاريخ. ويقول دياب عن المركز: «إنه حلم حياتي وفيه تعويض مباشر عن كل ما أصابني من آلام وجراحات سببتها لي العقد التي مررت بها. وفي المركز كل مراحل عمري، فهو يستقبل الأطفال من عمر 5 الى 15 سنة، ففيه تقام كورسات خاصة عن التربية عن طريق الفن والسلوك الحضاري، كما أن للشباب فرصاً لعرض معارضهم الفنية، مع إقامة ورش فنية دورية لهم، في الوقت الذي فتح فيه المركز الباب على مصراعيه لكل إنسان فنان ليعرض تجربته فندرسها معه ونساعده». ويأسف دياب للإهمال الذي وقع على الفن من البيوتات والمؤسسات السياسية والاقتصادية والدينية الكبيرة في السودان، أمثال السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي، والسيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، «المجموعات السودانية تتنافر وتتناكف في السياسة، في الوقت الذي كان فيه دورهم في الثقافة ضعيفاً جداً. وكنا نتمنى أن تكون هناك مؤسسة محمد عثمان الميرغني للفنون، ومثلها مؤسسة الصادق المهدي للفنون، ومثلها عند أصحاب الأموال وأثرياء المجتمع السوداني.. إنهم للأسف لا يثقون في الثقافة، كما كان يثق فيها أثرياء العالم الذي تقدم بها وجعلته متحضراً، من أمثال روك فيلر& فورد».